لم يفارقنا يوماً، ولم نكل لحظة عن هدهدة حلم إعادة إعمار العراق، ومنح سكانه من شتى الرطانات والأزياء؛ فرصة العيش كبقية الأمم التي أكرمتها العقلانية والأقدار بأمن وكرامة وسلام. كنا ندرك تماماً نوع وحجم الخراب المادي والقيمي الذي سيخلفه النظام المباد بعد زواله، وكذلك صعوبة مهمة النهوض به مجدداً مع ما تبقى لنا من إمكانات محلية محدودة جداً. لكن ما حصل بعد “التغيير” من انحدار سريع الى الحضيض، قد صدم لا ما نسجته مخيلة المتفائلين وحسب بل تجاوز حدود ما رسمته سوداوية المتشائمين أيضاً، عندما انطلقت الحشود الى نبش ملفات لا تمت بصلة لحاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب بالثارات الصدئة. بعد عقد ونصف من كوارث ما بعد “التغيير” وبعد انكسار رأس رمح عصابات الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عسكرياً، والغعلان عن تحرير كامل التراب الوطني من دنس هذه الشراذم، عاد الحديث مجدداً عن حلم إعادة البناء والإعمار، وفي كلمته بمناسبة عيد الشرطة العراقية يعيد السيد العبادي هدهدة ذلك الحلم بقوله: (إن البلاد مقبلة على ازدهار اقتصادي..) وهو بذلك يذكرنا بعبارة الروائي السوري الراحل سعد الله ونوس (نحن محكومون بالأمل). لكن مثل هذه التطلعات المشروعة “الازدهار” و “الأمل” بحاجة كي تتحول من إمكانية الى واقع، لحزمة من الشروط على رأسها الملاكات المسكونة بمثل هذه التطلعات والمشاريع الواقعية والمعللة علمياً وغير ذلك من الخطوات والقرارات المؤلمة والشجاعة.
عندما نتصفح قليلاً في التجارب القريبة التي خاضت غمار مثل هذه المواجهات، لإعادة بناء بلدانها والنهوض بها من بين أنقاض الحروب والتجارب التوليتارية، نجدها جميعها ومن دون استثناء لم تعتمد لصوصها ومتخلفيها ومتحذلقيها وعطابات هذياناتها وهلوساتها في مثل هذه المهمات والانعطافات التاريخية، بل على العكس انبرى لها أفضل ما أنجبته تلك البلدان من كوادر وملاكات ميزتها الأساس روح الإيثار المقرونة بالعقلانية والمسؤولية والحكمة والوعي العميق لحاجات وتحديات عصرها، وهذا ما لم يحصل عندنا حتى هذه اللحظة، حيث ما زالت قضايا الإصلاح والتغيير ومحاربة شبكات الفساد الأخطبوطية، مجرد مانشيتات عريضة لم تغادر حدود الحبر والورق وكرنفالات تبادل الادوار بين المخلوقات والجماعات التي تلقفت مقاليد عراق ما بعد الفتح الديمقراطي المبين. من دون أدنى شك أود من كل قلبي مشاركة السيد رئيس مجلس الوزراء المحترم (السيد حيدر العبادي) كل هذا الدفق من مشاعر التفاؤل بأن بلادنا “مقبلة على ازدهار اقتصادي” لكن كيف سنواجه كل هذه المعطيات والحقائق المتنافرة وأبسط شروط هذا التفاؤل والأمل، وحيث يقبع العراق حالياً ضمن البلدان العشرة الأكثر فساداً في عالم اليوم وفقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية. نعم كل هذا يمكن تجاوزه مع انطلاق حراك واسع ومنظم للمواجهة مع حيتان الانحطاط والفساد، ولكن هل هناك من يدلني على أدنى علامة تشير لمثل هذه العافية شعبياً ورسمياً..؟
بعد شهر من الآن أي في يوم 12 من الشهر المقبل، سيعقد في الكويت المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي سيحضره ممثلين عن 70 دولة فضلا عن البنك الدولي، ومن المفترض أن يجمع المؤتمر مبلغاً مقداره 100 مليار دولار لمساعدة العراق في هذه المهمة، وهي مناسبة تدعو العراق كي يتجرأ على تحسس مشوار الألف ميل على طريق عزل الفاسدين والمتخلفين واللصوص عن مقاليد السلطة والثروة وأسلاب المنطقة الخضراء..
جمال جصاني
من للإعمار والازدهار؟
التعليقات مغلقة