يوسف عبود جويعد
قد نجد في رواية (أحلام العبوة الرابعة) للروائي أسعد اللامي، أن الرؤية الفنية لسياق هذا النص يسير في إتجاهين مختلفين، ضمن فن صناعة الرواية، الاول هو أن القريب من حياة الروائي والمتابع له في التفاصيل التي عاشها إثر إصابته بهذ المرض الخبيث، ومعاناته والخطورة التي دخل خضم غمارها بسببه، والتفاصيل التي كان ينشرها عبر صفحات التواصل الإجتماعي عن مراحل تطورهذا المرض، سيجد هذا المتلقي القريب منه أن هذا النص ينتمي الى أدب السيرة، رغم إنضواء الروائي خلف بطل هذا النص (كريم فيصل)، لإننا سوف نكتشف أن الاحداث هي حياة الروائي عبر رحلة الألم والتداعيات التي خلفتها الذكريات، بينما يجد من هو خارج هذه الدائرة وليس على إطلاع بحياة لروائي أن هذا النص السردي ، أحداث تنتمي الى الواقعية النقدية، ولاوجود لصفة ومسحة وبصمة وإسقاطات الروائي في متن النص، الامر الآخر أن هذا النص يعد من أغرب ما كتب من نصوص سردية في العصر الحديث على كل المستويات العالمية والعربية والمحلية، كون الروائي يواجه هذا الطاغوت الرهيب وهو مهدد بالموت، وأن ما تبقى له من حياة بين عشرة أشهر الى سنة، هذا ما أخبره به طبيبه إثناء رحلة علاجه في الهند، لينبري بكل إرادة وقوة ورباطة جأش وهو يقاوم الاوجاع والجرعات المتتالية فيكتب عن هذه الحالة بتلك التفاصيل الدقيقة،أي حالة مرضه الخطير، كما إننا سوف نكتشف أن الشخوص الرئيسيين هما شخصان فقط،كريم فيصل ويسار، الا أن الاحداث التي ضُمت بهذا النص تنقلنا الى ازمنة واماكن كبيرة وواسعة، حيث أن يسار جاءت من بلد الغربة وهي إبنة عمته لتقف على معاناته وتفاصيل حياته بعد إصابته بهذا المرض (سرطان الرئة) وإنتشار خلاياه الخبيثة في أرجائها:
(إن السبب الرئيس لهذا المرض هو الفزع والخوف والذعر، لقد توصلت الى ذلك بعد غوص عميق في تفاصيل خيوط حياتي التي عشت، لم يكن الأمر سهلاً بطبيعة الحال فأن تستحضر أيام حياتك، تفرد ساعاتها الطويلة على طاولة الإستقصاء والتشريح وتغور بعمق بين ثناياها ليس بالأمر اليسير ولا المريح على الإطلاق، لكنني توصلت بشكل قاطع الى ان الفزع الذي دمغ حياتي الماضية هو السبب) ص11.
وفي هذا المقطع تمهيد لدخول المتلقي الى حالات الفزع والخوف والرعب، والصدمات النفسية الكبيرة التي حدثت في حياته، وكانت سبباً في إصابته بهذا الداء الخطير.
كما نلاحظ إستحضاره للزمن بشكل ملفت للنظر وعملية الإنتقالة الكبيرة فيه، عندما يتذكران العمة وهي تتحدث عن ابويهما، ومن هو كان الدرويش منهما، وتفاصيل اخرى سيجدها المتلقي وهو يتابع حركة السرد:
(لحظتها نكون أنا وانتِ يا يسار قد أغمضنا أعيننا وتركنا العمة لحكايتها وغطسنا في بركة النوم، ولا نفتح أعيننا الا بعد سنين طوال، بعد أن تكون العمة قد فارقت الحياة والدرويش فيصل الذي هو أبي والذي جعلته عنوة درويشاً ووافقتني العمة على ذلك بحزن قد فارقها أيضاً بعد أن أمضى في السجن أربع سنوات لم تورثه سوى العلل والأسقام وبعد أن نكون نحن أنا وأنتِ يا يسار قد كبرنا وشتتنا في دروبها الأيام.
هذه الإنتقالة الذكية والكبيرة في حركة الزمن تؤكد أن الروائي إستحضر ادواته السردية بشكل متقن.
ثم نرحل عبر هذا النص السردي الى الاحداث التي عاشها كريم في حياته، ولكنها ليست إستعراض فقط، وإنما من أجل أن يضعنا الروائي في مواطن الهلع والخوف والرعب والقلق والفزع التي حدثت في هذه لرحلة، من تلك الحوادث جلب جثمان أخيه (جمال) وحالات البكاء والعويل، ثم إكتشاف إمه بأنها ليست جثمان جمال،لأن جمال كان يحمل على كتفه وحمة عنقود عنب أحمر، وهذه الجثة خالية من هذا الوشم الوحمي،وحضور أهل الشهيد،ومعرفته:
( وذهبت يا يسار… رافقتهم إلى وادي السلام، وهناك نبتت في الرئة غصة مهدت لمرض السرطان، لقد أحسست بها تشق طريقها وتلتصق بجدار الرئة الأيمن حالما رأيت المرأة الريفية تقلب اللوح المتخشب للرفاة وتنوح كفاختة ثكلى )ص30
ويبقى جمال إلى اليوم روحاً هائمة يذروها المجهول والنسيان بعد أن قيل لنا بعد ذلك بفترة قصيرة بأنه مفقود وبقيت خالتك قبيلة شجرة عجفاء خاوية تدعي القوة والثبات ولكنها تنهار ميتة إذ يمر امامها طيف جمال بين الحين والحين ص31
وتجدر الإشارة هنا الى أن مقاطع من السرد الروائي لرواية شباك أمينة، قد إقتطعت لتكون ضمن متن النص السردي لهذه الرواية، منها أن اسم البطل في كلتا الروايتين كريم،وحادثة السجن و(تنكة ) البراز، وإصابة كريم بالإسهال، الا أن الفارق في ذلك أن في الرواية لاولى يقوم بعملية البراز في قاعة السجن بينما في هذا النص يعطي لجندي السجن مبلغ من المال لاخراجه الى المرافق الصحية للسجن، وكذلك حديثه مع يسار وهو يسألها بعد هذه الفترة الطويلة، هل تعرفين بيتكم من ضمن الحي، فتقول له لو مت وحييت ثانية فلن أتوه عن رائحة قميص أبي المعلق على حبل الغسيل،وربما عمد الروائي الى إستحضارها لأنها تدخل ضمن سياق المسببات لهذا لمرض، وكذلك شخصية النتن التي تفوح منه رائحة البراز وهو يصرخ فاطمة، افتحي الشباك .
ثم ننتقل الى أحداث حرب الثمان السنوات،والتي توقف فيها الروائي على مواطن الخوف والهلع والفزع وهي كثيرة:
( ثم جاء الاهتزاز الذي اعترى رأسي وأنا أتخيل الرصاصة تنطلق من الماسورة السوداء وتفجر رأسي بما فيه من ضجيج)ص 61
ثم ندخل رحلة الالم والعذاب والمعاناة من هذ المرض الخبيث التي تبدأ في فصل (عام الصراع مع الكارسينوما)
( السيد كريم فيصل، يؤسفني أن أخبرك أنك في المرحلة الأخيرة من مرض السرطان، ونوع مرضك يسمى الخلايا الكارسونومية الصغيرة وهي خلايا شرسة وسريعة الانتشار وخصوصاً نحو منطقة الدماغ، يؤسفني ياسيد كريم أن أقول لك أن ماتبقى لك في الحياة من عمر محصور بين العشرة أشهر والسنة في أفضل الاحوال..) ص 88
وهكذا نرحل ارتحالتنا الكبيرة نحو ذروة الاحداث وتفاقم المرض وزيادة خطورته،لنكون معه عبر المشافي وجرع الكيمياوي وما تحدثه من آلام في جسده وعقله وروحه:
( في الاسبوع الثاني وأكون قد إستعدت شيئاً من قواي أشد رحالي صوب ملاذي الأثير، علي بن ابي طالب، أبات ليلة في حماه وتكون بيني وبينه أحاديث كثيرة ومناجاة، أبثه ألمي ومرضي وتفاقم حالتي وأطلب منه العون، ولا أنسى في الصباح ويكون قلبي وقتها قد أرتاح وهدأت دقاته وغمره إطمئنان وسكينة وهدوء ان أمر على عسال عجوز في السوق الكبير، أتركه يضع نحلاته على صدري،يلسعني لسعات رقيقة ثم يودعن الحياة، بعدها أيمم وجهي نحو كربلاء وأبقى مع الحسين وأخيه العباس ليلة وفي الصباح اتجه نحو طبيبة صغيرة تسمى شريفة بنت الحسن)ص 91
وهذه الرحلة المكوكية القدسية، المفعمة بالايمان وحب ال بيت النبوة،كانت سبب في تخفيف حدة الام المرض وقتل العديد من للخلايا السرطانية الشرسة، والتي أشاد بها الطبيب المعالج في الهند، الذي أكد له أن تلك الخلايا بدأت بالتناقص وانها سوف تندحر، الا أنه يحتاج بإستمرار الى جرع من الكيمياوي.
ومن خلال مبنى هذا النص نكون مع الرمز الكبير الذي ثبته الروائي في متن النص والذي يشير الى هذا التوأم شعنون وبعثون اللذان ولدا لتموت امهم الصغيرة ابنة التسع سنوات، وفيه إشارة واضحة بأن سبب بلاءنا وخرابنا هم، وهي إشارة رمزية واضحة.
وفي الفصل الاخير الذي يحمل بنية العنونة (أحلام العبوة الرابعة) نعيش تفاصيل هذا المرض بشكل تفصيلي، وهو يمثل ذروة الاحداث وتأزمها وسيرها نحو التصاعد بلغة سردية مفعمة بالاوجاع:
( في الساعة العاشرة صباحاً يحين موعد الاعطاء الوريدي للعلاج، احتاج لحظتها الى قدر كبير من الصبر ورباطة الجأش كي لا انفجر وأنا أتطلع بقنوط الى السبع عبوات التي وضعتهن صيدلانية شابة في غاية الرقة والجمال على الطاولة الملحقة بالسرير وفق ترتيب)ص 96
ومن ضمن هذه العبوات، تكمن العبوة الرابعة، تلك التي لها وقع خاص لدى المرضى المصابين بهذا الداء الخبيث، وسحر غريب حيث تنقلهم الى عالم ثاني مليء بالاحلام والذكريات:
( ودخلت عوالم غريبة ما كنت افكر يوماً انني سأراها، ورأيت وجوهاً غادرتني منذ أزمان بعيدة، شاهدت موتى يعودون واحياء يلوحون بتحية الوداع وحدث ان وجدتني سائحاً في اكثر من عشرة بلدان ) ص 97
وأخيراً ننتقل الى المقطع الاخيرمن هذا النص،والذي هو يمثل الخطاب الإنساني الكبير :
( كما ترين يايسار أن بالامكان ترميم جسد الإنسان، ولكن هنا، هنا، صرخت وانا أدق على صدري بعنف. هنا في الداخل كيف يمكن إقناع اطفال الكارسينوما المتوحشين بالكف عن اللعب الخشن وعدم قضم الايام القليلة المتبقية لي في الحياة) ص 124
رواية (أحلام العبوة ارابعة) للروائي اسعد اللامي، عمل نادر لايمكن ان يتكرر،لأننا سوف نعيش معه في رحلته الصعبة وصراعه ومقاومته وصبره والمه وعلاجه مع هذا المرض الخبيث الذي فتك بالكثير من الناس دون ان يصل الطب الحديث الى علاج نهائي له.
من إصدارات دار لارسال للطباعة والنشروالتوزيع لعام 2019 ط1