مذكرات الرئيس جلال طالباني

رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
الحلقة 51
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
أسباب فشل الاتفاق

* ماذا حمل الدوري بجعبته حين عاد إليكم؟
– حين جلس قال “أنا آسف جدا، فالرفاق يقولون بأن هناك بعض النقاط التي يجب أن نحسمها قبل توقيع الإتفاق” فقلت “ماذا تقول أبو أحمد، لقد حسمنا الأمر، فما هي النقاط التي تحتاج للمناقشة”؟ قال “ميثاق العمل الوطني”، قلت “لقد حسمنا هذا الموضوع مع الرئيس صدام، وقال بأن الأمر قد يطول لأكثر من سنة، وأبلغنا بأن ميثاق الشيوعيين إحتاج الى سنة ونصف”، وأضفت “أبو أحمد أنت رجل مؤمن، أحلفك بالله أن تقول لي صدقا ماذا حدث؟ هل الأمر متعلق بوصول الوفد التركي”. وكان هذا الوفد قد وصل الى بغداد توا فرد الدوري “لعن الله الأتراك والأمريكان”. قلت “حسنا، نحن مستعدون لبحث مسألة الميثاق بتفاصيلها على غرار (الجبهة الوطنية) رغم أننا بحثناه سابقا”. فقال “ولكن القيادة لها توجهات أخرى”. حينها تأكدت بأنهم لايريدون إنجاز المهمة ولذلك قلت لرفاقي “إذهبوا أنتم الآن وسألحق بكم فيما بعد” فقد خشينا على أنفسنا وأن يحدث ما لايحمد عقباه، ولكن والحق يقال، إنبرى الملازم عمر وقال “قسما بالله لن أتركك وحدك هنا، فإما نخرج معا بسلام، أو نبقى معا هنا”. ورجع الرفاق واحدا تلو الآخر، ثم تطرقنا في الإجتماعات اللاحقة الى مسألة إشراك بقية الأحزاب في الجبهة الوطنية. وجرى الإتفاق على أن تجري بكردستان إنتخابات جديدة ولنرى هل أن الأحزاب المصطنعة الموالية للبعث تستطيع أن تحقق نسبة جيدة أم لا؟ عندها سيتبين ما إذا كانوا فعلا أحزابا حقيقية أم هي مجرد واجهات مصطنعة وكان هناك رأيان مختلفان. كان رأي عزت الدوري “هؤلاء ليسوا أحزابا حقيقية “ويخالفه نعيم حداد بأنهم أحزاب حقيقية، وقلت في الإجتماع “أنا حائر بينكما، لديكما رأيا مختلفان، ولكني أريد أن أعرف رأي الحكومة”؟ قال الدوري “نحن أسسناها بالقوة ودعمناها بأموالنا”. بعد أسبوع تأكدت بعدم الحاجة لبقائي في بغداد و بأن الإجتماعات لن تأتي بنتيجة و لذلك قلت للدوري “إذا تأذن لي فأنا أريد الرجوع”، قال “حسنا إذهب على العين والرأس”. وقال نعيم حداد “إن إنتخابات المجلس الوطني على الأبواب، وأنا متأكد بأنكم لن تشاركوا فيها، ولكن أرجوكم لا تخلقوا لنا مشاكل حتى نجريها بسلام”. قلت له “حسنا ولكن بشرط أن لاتهاجموا مناطقنا المحررة”، قال “وهو كذلك، ولكن أنتم أيضا لا تضغطوا على الناس ليلتحقوا بكم ونحن من جهتنا لن نضغط عليهم ليذهبوا للانتخابات”.

قرار وقف المفاوضات

* وما هي أهم أسباب إنهيار المفاوضات؟
– يوما بعد آخر كنا نشعر بفتور العلاقة بيننا والحكومة، وظهرت إنتقادات من كل حدب وصوب ضد الحكومة التي إعتقلت بعض رفاقنا وعقدنا في الإتحاد الوطني إجتماعا موسعا بمشاركة جميع الكوادر السياسية والعسكرية وجميع أعضاء قيادة العصبة والخط العام. وقرر الإجتماع إنهاء المفاوضات، ولكن لا يعني ذلك بدء القتال، بل نترك فسحة لعدم إستئنافها، وكان الرأي الغالب هو أن نديم الهدنة. ولكن الجميع أدركوا وبقناعة أن المفاوضات لم ولن تثمر عن شيء، ولذلك أصدرنا بيانا في الخامس عشر من الشهر أوضحنا فيه الحقائق أمام الشعب و بعد ذلك أرسلت الحكومة وفدا آخر برئاسة سعدي مهدي صالح الذي رجانا كثيرا للمضي بالمفاوضات وعدم قطعها فقلت له “ان هذا القرار لاتراجع فيه، ومع ذلك نستطيع أن نديم الهدنة بيننا وبينكم”. وأوفدت الحكومة أيضا الدكتور قاسملو وطلب منا أن يستمر وقف القتال، ولكن الهدنة لم تدم طويلا فقد إنتهكوها بأنفسهم وتجدد القتال.

* وهل طلبت منكم الحكومة أثناء المفاوضات أن تحاربوا إيران؟
– نعم طلبوا منا ذلك وكما بينت سابقا قالوا على الإتحاد الوطني أن تتولى مسؤولية حماية كردستان من أية هجمات للعدو وأيا كان ذلك العدو، سواء الأتراك أو الإيرانيين أو أي طرف آخر أراد أن يعتدي على أراضي كردستان العراق، وكانت لدينا قناعة ذاتية بأننا مسؤولون عن حماية كردستان والدفاع عنها إذا تعرضت لهجمات القوات الإيرانية، ولذلك إقترحوا علينا تشكيل قوة من مائة ألف مقاتل وأن يخصصوا لها ميزانية للرواتب وتجهيزها بالأسلحة والعتاد، وقبلنا بهذا المقترح للدفاع عن كردستان، ولكن ليس بالإنضمام الى القوات العراقية لحرب إيران في وسط وجنوب العراق.

الإنتفاضة والعودة الى التفاوض
إنتفاضة ربيع عام 1991

* من قام بالدور الرئيسي في إنتفاضة ربيع عام 1991؟
– الدور الأساسي كان للإتحاد الوطني و تنظيماته السرية داخل المدن و كذلك المفارز الداخلية المسلحة فهؤلاء جميعا كانوا في طليعة الساحة، أما القيادة الفعلية فقد كانت لنوشيروان مصطفى.

* وهل حدثت أخطاء أثناء تلك الإنتفاضة؟
– بالطبع أظن أنه حدثت عدة أخطاء أهمها:
أولا: الوقت لم يكن مناسبا لذلك، فقد كان يفترض أن تبدأ بوقت أبكر، أو على الأقل ننفذ الخطة بالتزامن مع إندلاع إنتفاضة الجنوب.
ثانيا: كان يفترض أن نركز على مخازن أسلحة النظام ونستولي عليها لأنفسنا.
ثالثا: كان علينا أن نصدر بيانا ندعو فيه جميع الأعضاء و البيشمركة القدماء بالإتحاد الى الإلتحاق الفوري بنا.
رابعا: كان علينا تسليح أفراد الشعب ليدافعوا عن مدنهم.
خامسا:كان علينا أن نضع خطوط دفاعية أمامية ونقويها بشكل أفضل.فعلى سبيل المثال حين هزمنا بجبهة كركوك كانت خطوطنا الدفاعية بمنطقة (جيمن وقرةهنجير) في حين كان يفترض أن نضعها بمنطقة (بازيان وشيوسور) بمحاذاة طاسبوجة.
سادسا: لم نخض حرب المدن وكان يفترض أن نفعل، وكان ذلك سهلا علينا لأن الاتحاد الوطني لديه خبرة كبيرة بخوض مثل هذه الحروب داخل المدن وخاصة أن بيشمركتنا إكتسبوا خبرة ممتازة في القتال داخل القرى وسجلوا العديد من الملاحم البطولية في تلك المواجهات.

تحرير كركوك

* أثناء الإنتفاضة تم تحرير كركوك لأول مرة بتاريخ الحركة الكردية، ولكن لماذا لم تستطع قوات البيشمركة أن تصمد فيها؟
– نعم نجحنا بتحرير كركوك بقوات الإتحاد وبقيادة نوشيروان نفسه، وإستطاع كوسرت رسول و الملازم عمر أن يديروا المعركة داخل المدينة، أما لماذا لم نستطع الصمود فيها، فيعود لعدة أسباب، منها أن الفترة التي جرت فيها تحرير المدينة كانت قصيرة جدا ولم نلحق بتسليح المواطنين هناك ووضع الخطوط الدفاعية لصد هجمات النظام الذي بدأ بقصف سكان المدينة والبيشمركة بالمدافع والدبابات والمروحيات.فبهذه الهجمات المكثفة إنهارت معنويات القوات المدافعة وظن الناس أن أمريكا هي التي أشعلت الضوء الأخضر لقوات النظام بالسيطرة على المدينة، وخاصة أن العراق أعلن بأن أمريكا لا دخل لها بمشاكل العراق الداخلية وبأنها لا مانع لديها من تحليق طائرات الهليوكوبتر وإستخدامها ضد المدنيين، هذا تسبب بإنهيار معنويات الناس والقوات بالمدينة(1).

* هذا يعني بأن إتفاقية (صفوان) عادت بالخير على النظام العراقي و بضرر كبير على شعب العراق في الجنوب و كردستان؟
– بالطبع، لم يجن العراقيون خيرا من تلك الإتفاقية المشؤومة، فقد أذيع بأن أمريكا لن تتدخل بشؤون العراق ، وكان عزت الدوري قد أبلغ أثناء مفاوضاتنا اللاحقة معهم مسعود البارزاني “بعد إحتلالكم لكركوك، أشعل الضوء الأخضر لنا لإستعادتها ” ولم نعرف هل أن ذلك كان الضوء أمريكيا أم تركيا.

* أنت تحدثت عن الأخطاء السياسية و العسكرية، لكنك لم تحدد الأخطاء الشخصية للقيادات التي أشرفت على عمليات تحرير كركوك؟
– هذا السؤال تستطيع أن توجهه الى كاك نوشيروان أو كاك كوسرت، لأني لم أكن هناك لقيادة المعارك وأعتقد ربما الخطأ الوحيد هو عدم بقاؤنا هناك، فكان يفترض أن يبقى جميع أعضاء القيادة داخل كركوك ويعملوا لتنظيم الناس وبناء الخطوط الدفاعية وحفر الخنادق، وأعتقد بأنهم أخطأوا التقدير حين ظنوا بأن الحكومة ستسكت ولن تسعى لإستعادة المدينة.

* حسب معلوماتنا كنت خارج البلاد حينذاك، فما كان دورك في التهيئة للإنتفاضة؟
– في الحقيقة كانت فكرة الإنتفاضة تجول بخواطرنا كثيرا وتحدثت حولها لعدة مرات مع نوشيروان، وخلصنا الى قناعة مشتركة أنه لايمكن أن نستمر بنضالنا في الجبال الى يوم القيامة ونهمل النضال المدني، وكانت تظاهرات وإحتجاجات قد خرجت في بعض المدن، وتأكد لنا بأن هناك قدرة لدى الجماهير للإنتفاضة، ونضجت الفكرة عندنا وخططنا لكيفية تنفيذها والإستعداد لها، ولم تبق غير مسألة إختيار الوقت المناسب للبدء بها.وتحدثنا حول أهمية بناء الخلايا المسلحة النائمة داخل المدن وتجهيزهم بالأسلحة والعتاد وأن نجري إتصالات بالبيشمركة القدامى الذين تحولوا الى جحوش لدى النظام. بل أننا أجرينا إتصالات حتى بقادة الجحوش الذين كانوا أصدقاؤنا في السابق، وكان خلافنا الوحيد هو حول إختيار الوقت المناسب لتفجير الإنتفاضة.كنت على قناعة بأن العراق سيتعرض لضربة قاصمة، وخالفني رفاقي الآخرين وسخروا مني وقالوا بأن صدام سينسحب من الكويت ولن يحدث شيء. لكني أصريت على موقفي وقلت لهم”سأضع أمامكم خيارين، فإما أن تتولوا المسؤولية الكاملة بدلا عني، وإما تعطوني فرصة ستة أشهر لاتخالفوا فيها قراراتي، فإذا لم تتحقق توقعاتي فأنتم أحرار فيما تفعلون بعد ذلك”. فوافقوا جميعا وفوضوني بتشكيل لجنة من المكتب السياسي وهكذا فعلت.أرسلت رسالة الى نوشيروان حول هذا الموضوع فأبلغني بأنه منهمك حاليا بتأسيس الخلايا المسلحة داخل المدن للتهيؤ، وأنه إتصل بالجحوش وهيأ مسير البيشمركة نحو المدن وذلك على أساس توقعاتي بضرب العراق. وأريد هنا أن أكشف للتاريخ مصادر معلوماتي حول ضرب العراق.كان لدي صديق بالقيادة العامة للجيش العراقي قال لي”بأن صدام لن ينسحب من الكويت”.وأبلغني بتوقعاته حول إندلاع الحرب لأن صداما يظن بأن أميركا لا تستطيع الدخول بالحرب خوفا من تحول المنطقة الى فيتنام أخرى.وبهذا الخبر تأكدت تماما بأن صدام لن ينسحب، وبحضور كوسرت راهنت حازم عبدالجبار الكبيسي بخمسمائة باون على أن صداما لن ينسحب، وربحت الرهان لكنه لم يعطيني شيئا!
كما تلقيت معلومة أخرى من صديق لنا هو بيتر غالبريث الذي أبلغني قبل إحتلال الكويت في واشنطن “أن أمريكا ستوجه ضربة لصدام، لأن الجيش العراقي أصبح قويا جدا وبات يهدد أمن المنطقة بأكملها، ولذلك سيفعلون شيئا ليعيدونه الى حجمه الطبيعي، ولذلك قال “جلال إحسب حسابك لهذه المسألة وإبنيها على أساس بأن توجيه الضربة بات أمرا محسوما”. كما كان هناك صديق أميركي آخر يدعى جيمس ريغند وهو سفير سابق في السعودية العراق وهو أول أمريكي تعرفت به في العراق قال “جلال، قد تكون أمريكا سعيدة بعدم إنسحاب صدام من الكويت لكي توجه له ضربة وتضعفه، وحين يضعف الجيش العراقي ستبدأ مرحلة جديدة في العراق وهي إزاحة صدام وإسقاط نظامه”.
كنت في دمشق جالسا مع الأخ عمر سيد علي ورفاق آخرين تطرق الحديث مرة أخرى الى موضوع الضربة، وكانوا جميعا عند الرأي الذي يقول بأنهم لن يضربوه، ولكني أصريت على أنه سيلتقى الضربة وستكون موجعة أيضا. وفي ساعة متأخرة من الليل نهضت لأذهب للنوم وقلت لهم، “أرجوكم لا توقظوني باكرا لأني أريد أنام طويلا”. ولكن في الصباح الباكر جاء عبدالرزاق كويي وطرق الباب فنهضت وصحت به “ألم أقل لكم لا توقظوني باكرا” قال “ألم تقل إذا ضربوا صدام بالكويت أيقظوني، هاهم قد ضربوه”؟ وهكذا بدأ الرفاق يحضرون أنفسهم للإنتفاضة، وما إستطعت أن أفعله لمساعدتهم في الخارج فعلته، فحصلت على بعض الأموال وحولتها الى الداخل، وفي الحقيقة ساعدتنا السعودية والكويت على رغم محدودية المبلغ الذي أعطونا ولكني حولت جميعها الى رفاقي بالداخل.

الهجرة المليونية ربيع 1991

* هل تعتقد أنه كان بالإمكان عدم حدوث الهجرة المليونية بربيع عام 1991؟
– للأسف، لا..كانت الأعداد كبيرة وضخمة الى درجة لم يكن بوسعنا أن نوقفها.ذهبت الى (بينجوين) وتحدثت الى الناس هناك وإلتف حولي الآلاف وصفقوا لي بحرارة، ولكني حين طلبت منهم العودة لم يستمع الي أحد ودعني أروي لك صلاح الدين حادثة طريفة. كنت ونوشيروان وبرهم بالكلية الحربية بأمريكا نشارك في ندوة خاصة حول العراق بعد الإنتفاضة.وهناك تحدث رجل أعتقد أن برهم كان يعرفه وقال في مداخلة له “أن جلال طالباني هذا، هو بحق رجل يتمتع بذكاء خارق في الحقيقة، لقد أبدع أسلوبا ناجحا حين نجح بكسب تعاطف العالم لأول مرة بتاريخ الشعب الكردي من خلال تشجيع وحث الملايين من شعبه للهجرة، فهذه الهجرة المليونية هي التي دفعت العالم من أقصاه الى أقصاه أن يهب لمساعدة هذا الشعب، وكل ذلك كان بفضل هذا الرجل”!

* وماعدا التعاطف الدولي ومساعداتهم، هل كانت للهجرة أية أضرار محددة؟
– من الناحية الإستراتيجية أعتقد بأنها كانت مفيدة جدا، أي أن التعاطف الدولي زاد كثيرا وضمن لنا حماية المناطق المحررة الحالية من الجو، وكانت تلك الحماية إحدى مكاسب هذه الهجرة. وحين إلتقيت بجيمس بيكر وزير الخارجية آنذاك قال لي “أثناء ولايتي وقعت أحداث دولية كبيرة ومثيرة، مثل سقوط جدار برلين وإنهيار الإتحاد السوفيتي وأحداث أخرى، ولكن لم تكن أيا من تلك الأحداث أكثر تأثيرا علي من الهجرة المليونية لشعبكم وتشردهم في الجبال، وخاصة حين رأيت الأطفال يسقطون فوق الثلوج، فلم أتمالك نفسي للإسراع بالوصول الى السفارة، لذلك إتصلت من داخل طائرتي بالرئيس وأبلغته بهول المأساة وبضرورة الإسراع لنجدتهم”.

* وهل كانت هناك إمكانية للإستفادة أكثر من تلك الهجرة و كسب التعاطف الدولي؟
– أعتقد بأننا إستغلناها بشكل أمثل، فالمهم أننا كسبنا تعاطف الرأي العام العالمي وكذلك تدفق المساعدات الإنسانية، ولاتنسى بأننا لم نكن بالقوة التي نحن عليها اليوم، فلم يتجاوز عددنا ثلاثة أو أربعة آلاف من البيشمركة وبرغم أن تنظيماتنا الداخلية الحزبية كانت جيدة لكن لم تكن على المستوى الحالي.

مفاوضات عام 1991

* في ظل هذه الأحداث التراجيدية، كيف عاودت مسألة المفاوضات مع النظام تفرض نفسها؟
– المسألة بدأت من جانبين.الأول جاءت مبادرة من برزان التكريتي شقيق صدام حين إتصل بنا من الخارج ويعلم بذلك الأخ سرجل القزاز، ولكن بسبب موقف الأخوة في البارتي لم تنجح الدعوة.. أما في الداخل فقد جاءت دعوة أخرى اثر الهجرة المليونية، وفي الحقيقة أن النظام وصل الى قناعة بأنه لايمكن أن يترك تشرد ملايين الناس هكذا وأنه لابد أن يبحث عن حل للمشكلة.
أرسلت الحكومة موفديها إلينا وطلبوا منا التفاوض وكانت هناك الجبهة الكردستانية، وإجتمعت الجبهة في (خليفان) وكان علي أن أذهب من السليمانية الى هناك بالطريق البري وسلكت الطرق التي تحت سيطرة الحكومة بمعنى أنني تلقيت تسهيلات من قوات الحكومة حتى أصل هناك، وفي الحقيقة أردت أن أوصل رسالة للنظام بأنني لست خائفا منكم. وحين وصلنا هناك كان الجميع بالإضافة الى الإتحاد الوطني من الأخوة في البارتي والشيوعيين يؤيدون الدخول بالمفاوضات وكالعادة فيما عداي أنا.لأني إعتقدت بأنه لافائدة من الحوار والتفاوض بتلك الفترة، وخاصة أن العالم برمته أصبح يساعد شعبنا ويدافع عنه، وأن الهجرة لاتعدو سوى هزيمة سننهض منها مجددا وبأننا لن نتوصل مع هذه الحكومة الى أي إتفاق.
قال الرفاق “ليس الأمر كذلك، سنستفيد من الحوار وسنستعيد أنفاسنا ونستجمع قوانا ونريح شعبنا قليلا، فالملايين من الناس المتجمعين فوق الجبال سيتعرضون للموت ومن واجبنا أن نحميهم”. وفي المحصلة لم أستطع أن أفعل شيئا فوافقتهم مرغما طلبت الحكومة إرسال وفد منا ورشحوني أنا ومسعود البارزاني.وقالوا “إذهب أنت”، فقلت “لايجوز أن أذهب أنا، فنحن والرئيس العراقي خضنا معركة بالشتائم ضد بعضنا البعض، هو تحدث عني بالسوء وأنا رديت عليه في الخارج”، فقال نوشيروان “ومتى كنت خائفا من هذه المواجهات، أنت تحمل دائما روحك عل كفك ومعرض للإستشهاد دوما، وهذه مسألة تتعلق بالشعب فإذهب الى هناك ودعهم يقتلوك عندها ستصبح شهيدا”، قلت “حسنا سأذهب ولكن بشرطين، الأول، أن يكون التكليف بقرار مكتوب من الجميع وبخط مسعود البارزاني، فمسعود (خطه حلو) وإكتبوا بأننا أرسلنا مام جلال الى بغداد ليفاوض الحكومة. والشرط الثاني، إذا طلبت من أي شخص أن يأتي معي عليه أن لايمانع”. فوافقوا على الشرطين.
وقبل ذهابي لذلك الإجتماع كنت أنوي أن أغادر كردستان في حال قرر الرفاق الدخول بالتفاوض، وعزمت على أن أترك منصبي كسكرتير عام الإتحاد، حتى أنني أبلغت هيرو بأن تحضر حقائبنا وقلت لها بأننا ذاهبون إما الى إيران أو الخارج، وسلمت الأموال التي كانت بعهدتي من مالية الإتحاد للأخ حمة توفيق رحيم.

* وما الذي دفعك للتراجع عن هذا القرار؟
– حين لاحظت بأنهم جميعا يريدون مني الذهاب رضخت لقرارهم.؟ وسافرنا في السابع من نيسان الى بغداد وبدأت المفاوضات، والمرة الثانية ذهب مسعود، والمرة اللاحقة ذهبنا معا.

* هناك حديث حول رسالة كـتـبهـا مسعـود الـبارزاني فـمـا كـانـت فـحوى الرسـالـة؟
– نعم الرسالة مازالت باقية و كتبها بـخط يـه وإعـترف مسعود لـثـلاث مرات بأنه هو من كتب تلك الـرسـالـة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة