رازي نابلسي
دلّ استطلاع رأي بشأن نسبة التديّن في المجتمع الإسرائيليّ، أجرته صحيفة «هآرتس» بمناسبة رأس السنة اليهوديّة، على أن أكثر من نصف المجتمع الإسرائيليّ يعتقد أن حقّه في أرض فلسطين مشتق من وعد إلهي، وأن 56% من المجتمع الإسرائيليّ يعتقدون أن اليهود هم شعب الله المُختار.
أمّا المعطى الآخر الذي يظهر في استطلاع الرأي، هو حقيقة أن الشباب جيل 18-24 عاماً أكثر تديّناً والتزاماً بالتعاليم الدينيّة، وأكثر يمينيّة في الخارطة السياسيّة، إذ تشير الصحيفة إلى أن التديّن في أوساط الشباب نابع من وجودهم على يمين الخارطة السياسيّة وليس العكس. كما يشير الاستطلاع إلى أن 64% من الشباب يؤمنون بالله وبالتوراة، مقابل 22% فقط من غير الشباب.
إن مثل هذه النتائج لها دلالات كارثيّة على المستقبل، من حيث القدرة على الوصول إلى مسار سياسيّ، أو حتّى قبول فتح مسار سياسيّ، خاصة بكُل ما يتعلّق بالشباب داخل المجتمع الإسرائيليّ، فالدلالات سياسيّة فعلاً بخصوص المستقبل، خاصة أن المعادلة في إسرائيل: متديّن أكثر، يميني أكثر.
إن ما يعزّز هذه المُعادلة، حيث اليمينيّ سياسياً هو أكثر تديّناً والعكس صحيح، حقيقة التوزيع الجغرافيّ والسياسيّ للمتديّنين، إذ يشير استطلاع الرأي إلى أن 78% من مصوّتي اليمين متديّنون مقابل 15% فقط من مصوّتي «اليسار» يعرّفون ذاتهم على أنّهم متديّنون. أمّا بالنسبة إلى التوزيع الجغرافيّ فإن 85% من سكّان القدس و81% من المستوطنين في الضفّة الغربيّة متديّنون، مُقابل نسبة 44% فقط من سكّان مركز البلاد يعرّفون ذاتهم متديّنين. وهو ما يشير إلى أن نسبة التديّن في القدس والمستوطنات- أي مناطق الصراع بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيليّ، هي ضعف نسبة التديّن في مدن المركز وحيفا، حيث الصراع اليوميّ السياسيّ على الأرض حُسم بالنسبة إلى المجتمع والدولة الصهيونيّة.
المُستقبل: أسئلة التوجّهات
بالمُجمل، يشير الاستطلاع إلى أن 75% من المجتمع الإسرائيليّ مجتمع مؤمن: 54% يؤمنون بالله و21% يؤمنون بقوّة عليا ليست الرب ولا التوراة. هذا المعطى، يشير إلى مجتمع فيه الأغلبية العظمى متديّنة أو تؤمن بالغيبيّة، خاصة إذا ما أضفنا إلى هذا كلّه حقيقة أن أكثر من نصف المجتمع يعتقد بأحقيّة اليهود في فلسطين بحسب الوعد الإلهي. إذاً، فإنّنا أمام مُجتمع متديّن يشتق السياسة من الدين والوعود الإلهية.
لا يُفصل الدين عن السياسة في إسرائيل، خاصة أن الهوية والمواطنة تشتق من الدين، الذي هو أساس تكوين الدولة العبريّة، وعليه بنيت الهوية السياسية للدولة، سيما مع أخذ مسار التشريع الجديد في «قانون القومية»، إذ باتت الدولة «دولة اليهود».
وهنا، لا بد من قياس هذه المعطيات للاستفادة منها في استشراف توجّهات المجتمع الإسرائيليّ، خاصة أننا نتعامل مع نظام سياسيّ يكتسب الشرعيّة من الأغلبيّة في المجتمع التي يشير الاستطلاع إلى أنّها «تؤمن أن وجودها في فلسطين حق ربّاني».
بالنسبة إلى المتديّن اليهوديّ، فإن نابلس أهم من حيفا، والخليل أهم من تل أبيب، وذلك لأهمّية هذه المناطق دينياً من حيث الرواية التوراتيّة والتراث الدينيّ التاريخي اليهوديّ. ولذلك، نرى أن ما نسبته 19% فقط من المستوطنين في الضفّة غير متديّنين. وأغلب الظن، بحسب التوزيع الاستيطانيّ، يسكنون في المستوطنات الكبيرة القريبة من مدن المركز والقدس كـ»أرئيل» و»معاليه أدوميم» وحتّى «غيلو»، وهي مستوطنات كبيرة تسكنها الطبقة الوسطى الإسرائيليّة التي تبحث عن سكن رخيص ووصول سريع إلى مراكز المدن داخل الخط الأخضر.
من هذا الباب، يمكن قراءة مستقبل الضفّة على أنّه تعمّق أكثر لليمين وتديّن أكثر، ما ينذر بتعمّق «الجمهوريّة الثالثة»، أي إسرائيل التي تتخذ فيها الحكومات شرعيّتها من قبل المستوطنين والمتديّنين عموماً، الذين حتّى لو لم يسكنوا المستوطنات، فهم داعمو الخط السياسيّ الذي يدعم المستوطنات ويعزّزها من مبدأ الخلاص الدينيّ، ويتمثّل بالتيّار الدينيّ داخل الحزب الحاكم «الليكود» وحزب «البيت اليهوديّ».
تديين الصراع: التعميق
إسرائيلياً، ومنذ العام 2009 – أي ولاية نتنياهو الثانية – يتغلغل اليمين الدينيّ في مفاصل الدولة والحكم والأجهزة الأمنيّة. ولا شك أن اليمين الدينيّ في إسرائيل بات الحليف الطبيعيّ لنتنياهو وحكوماته اليمينيّة. وهذا ما وصفه نتنياهو في الانتخابات الأخيرة عندما اعتبر «البيت اليهوديّ» حليفاً طبيعيّاً في الحكومة قبل تشكيلها.
إن هذا التحالف يمنح التيّار الدينيّ في إسرائيل سيطرة على المضامين التي تبث في المجتمع، وبالتاليّ توجيهه. فعلى سبيل المثال، يسيطر «البيت اليهوديّ» على وزارات التربيّة والتعليم والقضاء والزراعة، وتشكّل الأخيرة الذراع الأطول والأكثر سيطرة على الاستيطان.
ومن هذا الباب، يمكن قراءة عمليّة تديين المجتمع: نتنياهو والعلمانيون عموماً ينصّبون اليمين الدينيّ في وزارة كالتعليم، فيقوم الثانيّ بدوره ببث مضامين دينيّة في التعليم الذي يؤثّر على توجّهات الطلّاب لخلق مجتمع أكثر دينيّاً، يفرز حكومات أكثر دينيّة بالنتيجة تُعيد تدوير العمليّة لتعميق التوجّه الدينيّ. وهذا، يُضاف إليه تملّق الأحزاب القوميّة والعلمانية للتيّار ذاته الذي يدفع بالخارطة السياسيّة برمّتها حتّى أقصى اليمين.
تشكّل نتائج الاستطلاع، الذي نشرته الصحيفة حول نسبة التديّن والتوجّهات الدينية بالمجتمع النتيجة لهذه الدورة من صياغة المُجتمع، وبالتاليّ صياغة الخارطة السياسيّة.
كُتب الكثير عن التديّن في إسرائيل، إلّا أن نتائج هذا الاستطلاع، وخاصة بما يتعلق بالشباب، تدلّل على استمرار تعمّق هذه الدائرة من العلاقة بين رأس الهرم السياسيّ في إسرائيل؛ أي الحكومة والقاعدة الانتخابيّة. وهي تُنذر بصورة لا تدع مكاناً للشك، بأن التديّن في المجتمع الصهيونيّ والصراع عموماً سيبقى في ذات الاتجاه. ومن سيدفع الثمن، للأسف، الشعب والأرض الفلسطينيّة التي يسعى المشروع الدينيّ اليهوديّ إلى سلبها لإقامة «أرض إسرائيل الكبرى» التي وُعدوا بها إلهياً بحسب معتقدهم الذي يؤمن به أكثر من نصف المجتمع، مع العلم أن جميع المستطلعين هم من أصحاب حق التصويت، أي أن أصغرهم فوق جيل 18 عاماً، وهو أيضاً الجيل الذي يتجنّد في الجيش.
تشير غالبيّة الاستطلاعات إلى أن أبناء الصهيونيّة المتديّنة واليهود الشرقيّين يتطوّعون في وحدات قتاليّة، في حين يتوجّه غالبيّة الأشكناز (ذوو الأصول الأوروبية) إلى الوحدات الهندسية والمكتبية وسلاح الجو. وبالتاليّ، فإن المستقبل ينذر بالأسوأ من حيث إمكانيّة فتح مسار سياسيّ جديد يفضي إلى دولة أو كيان سياسيّ- سياديّ في الضفّة الغربيّة والقدس.
الأوامر الدينيّة: بين الحاخام والضابط
بعد إقدام الجنديّ أزاريا على إعدام الشهيد الشريف في الخليل وهو مُصاب وملقى على الأرض، نشرت الصحافة الإسرائيليّة أنه كان على علاقة مع الحاخامات في الخليل، وكان يشارك في جلسات دينيّة للحاخامات، ما شكّل حينها صدمة للقيادة العسكريّة التي اكتشفت أنّ في المؤسسة العسكريّة هناك من يؤثّر على قرار الجندي غير الضابط.
ولا يستثنيّ الاستطلاع هذا الموضوع ليكشف عمّا هو أصعب من جنديّ يُطلق النار، فيبيّن أن ما يعادل 46% من المجتمع الإسرائيليّ يعتقد أن الحاخامات قادرون على صياغة الواقع والتأثير عليه. أمّا بخصوص الشباب، فإن الاستطلاع يشير إلى أن نسبة عالية منهم يؤمنون بدور الحاخامات ومكانتهم وتأثيرهم على القرار والواقع. وهذا المعطى ليس بسيطاً ولا عرضياً، بل يدلّل على مدى تأثّر الشباب الإسرائيلي بأوامر رجال الدين الذين يعتبرون جوهرياً، أن كُل من هو غير يهوديّ (الأغيار) يبقى أقل قيمة ومكانة من اليهوديّ، خاصة على أرض إسرائيل. وهو ما يضع الفلسطينيّ أمام قرارات غير عقلانيّة، قرارات بمرجعيّات دينيّة تمجّد القتل، خاصة أن الشباب الذين يتأثّرون برجال الدين، هم ذاتهم الذين يقفون على كُل حاجز وسيّارة بسلاح.
وعلى الرغم من أن القرار العسكريّ الصهيونيّ لا يقل خطورة عن القرار الدينيّ، بل يستند إليه وينطلق منه كما هو المشروع الصهيونيّ برمّته، إلّا أن الدين في اتخاذ القرار السياسيّ، يشكّل مرحلة أخرى أكثر تطرفاً ووحشيّة وأقل تنظيماً من الجيش الذي يخضع لقرار مركزيّ وسياسيّ.
الأسئلة السياسيّة مُقابل الدينيّة
يلتقي هذا الاستطلاع الذي أجرته الصحيفة مع استطلاع آخر أجراه معهد «بيو» الأميركي للأبحاث، وعلى الرغم من أن المعهد لا يحدّد الأبعاد السياسيّة كما فعلت الصحيفة في استطلاعها، إلّا أن نتائج استطلاع المعهد تشير إلى ارتفاع في نسبة اليهود الذين يشدّدون على أهميّة الدين في حياتهم من 24% في العام 2007 إلى 30% في العام 2016، ليدلّل استطلاع «هآرتس» على أن نسبة اليهود المتديّنين في إسرائيل منتصف العام 2018 هو ما يُعادل 54% من المجتمع.
وهذا ما يعود ليؤكّد على حقيقة ما يتم تداوله بصورة عامّة حول ارتفاع نسبة التديّن في المجتمع الإسرائيليّ، خاصة في السنوات العشر الأخيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود التيّارات الأيديولوجيّة الدينيّة على رأس الهرم السياسيّ الإسرائيليّ من «البيت اليهوديّ» الذي يمثّل اليهوديّة الصهيونيّة العصريّة، حتّى «شاس» و»يهادوت هتوراة» اللذين يمثّلان التيّار الحاريديّ. وهو التيّار الذي بات في السنوات العشر الأخيرة الحليف الدائم والمكوّن لحكومات اليمين الإسرائيليّ المتتالية.
تؤشّر هذه المعطيات إلى اتجاهين بما يخص الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ: الأول داخليّ، إذ ستتعمق في المستقبل العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في إسرائيل، وستستمر إسرائيل في الانزياح نحو اليمين؛ وثانياً بما يخص الفلسطينيّ، فإن الصراع سيتحوّل برمّته إلى كونه صراعاً دينياً تكون فيه القواعد والأسئلة السياسيّة ذات إجابات توراتيّة، ما يؤثّر ليس على المسار السياسيّ فقط، وإنّما على إمكانيّة فتح مسار سياسيّ مستقبلاً مع الفلسطينيين. فالمسار السياسيّ، إن فُتح، بحسابات الدين لا يغدو سياسة، بل يتعدّى ذلك إلى ثنائيّة «حلال» و»حرام» في المعايير الدينيّة والتوراتيّة. وهذا حصل في إسرائيل، بعد حرب 1967، وتحديداً في «مركاز هراب» في القدس، حيث كانت الأسئلة في جوهرها: هل مسموح دينياً التنازل عن أراضٍ للأغيار؟ إلّا أن الفرق الوحيد اليوم عن 1967 هو أن «مركاز هراب- المركز الروحيّ للصهيونيّة المتديّنة» حينها كان حركة دينية هامشية في المجتمع الإسرائيليّ، في الوقت الذي بات فيه هذا التيّار الأيديولوجيّ اليوم، يحمل وزارات عديدة وحليفاً طبيعيّاً في أي حكومة يشكّلها «الليكود».
عن صحيفة الأيام الفلسطينية