بين جيلين

أعظم ما يواجهه العرب اليوم أنهم غير قادرين على إنتاج نماذج جديدة من الأسماء التي كانت حاضرة قبل أقل من قرن من الزمان، وعاجزون عن سد الفراغ الذي أحدثه رحيل هؤلاء عن عالمنا هذا. وهم الآن أكثر عدداً، وأمضى قوة، وأوفر مالاً، وأغزر علماً من ذي قبل.
هذه المفارقة ربما لن تجد لها تفسيراً غير الشعور بالتضاؤل والهزيمة أمام شعوب العالم الأخرى، وفقدان الأمل بأي تغيير قريب يمكن أن يحدث على الأرض، رغم أن عوامل النهضة تبدو الآن متحققة لديهم بشكل كبير.
لقد كان الهدف الذي سعى إليه جيل الأجداد أيامئذٍ هو الخروج من حال الجهل التي انتهى إليها المجتمع بعد قرون من الاستبداد والتخلف والضعف. ومثل هذا الهدف كفيل بشحذ الهمم، وإثارة المشاعر، وتحفيز الطاقات. فلا غرو أن كانت جهود أولئك الرجال منظمة وفاعلة ومؤثرة، وجهود رجالنا خائرة وضائعة ومرتبكة.
في البلاد العربية الآن آلاف الجامعات والكليات والمعاهد العليا. أما خريجوها فأعدادهم لا تقل عن عشرات الملايين. لكن مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ماتزال تعاني من الخرافة والجهل والحرمان، وتشكو من التبعية والضياع وقلة الحيلة.
ومازال الناس فيها يذهبون للعلاج في أوربا وأميركا والهند كلما شعروا بتوعك أو أذى، مع وجود آلاف الأطباء الذين تخرجوا من كليات مرموقة، وتدربوا في مستشفيات كبرى فيها.
وحتى هذه اللحظة فإن مشاريع الإعمار المتوسطة والكبيرة تضعها شركات استشارية أجنبية، وما يزال الجزء الأكبر منها ينفذ بأيدٍ أجنبية أيضاً. مع أن آلافاً مؤلفة من المهندسين ينتشرون في طول البلاد العربية وعرضها!
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدراسات اللغوية والإنسانية فحدث ولا حرج. فهناك أعداد هائلة من الدارسين والخريجين. والكثير منهم يشغل وظائف جيدة في الدولة. ولكن عدد العاطلين منهم عن العمل يزداد يوماً بعد يوم.
ومعنى هذا أن هناك فائضاً في من درسوا التأريخ والعربية والجغرافيا وعلم النفس والاجتماع والآثار واللغات الشرقية والغربية. إلى الحد الذي جعل دولهم تعجز عن توفير فرص عمل كافية لهم.
ومع ذلك لم نسمع عن مؤرخين جدد بحجم عبد الرزاق الحسني أو جواد علي، فضلاً عن توينبي أو شبنغلر. ولم نقرأ لروائي مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، عدا أن يكون بشهرة دستويفسكي أو غوركي. ولا عالم اجتماع مثل علي الوردي أو عالم آثار مثل طه باقر .. ألخ!
هؤلاء الحكماء العرب الذين ظهروا في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي، كانوا يخاطبون جمهوراً ثلاثة أرباعه لا يعرف القراءة والكتابة. في حين كان خريجو الجامعات أندر من الكبريت الأحمر. وكان جميع هؤلاء من أبناء الأسر الميسورة. وهي أسر قليلة في زمن الجوع والفاقة والتشرد.
ليست هناك مقارنة بين خريجي اليوم وخريجي الأمس، ولا علماء وأدباء ومفكري هذا الجيل، والجيل الذي سبقه. ثمة شئ مفقود في هذه المعادلة يعطي لأولئك سمة التفوق، ولهؤلاء سمة الضعف.
ربما كان التحدي الذي واجهته الثقافة العربية في تلك الحقبة هو الذي أطلق تلك القدرات الهائلة من عقالها، وبعث في أوصالها القوة. ولكن مثل هذا التحدي تحول الآن إلى تصالح، ومهادنة، ووئام، مع أنها في أضعف أحوالها، وأوهن قواها، وأعظم أزماتها، على الإطلاق.
محمد زكي ابراهيـم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة