أحمد عبد اللطيف
من القارئ؟ وماذا تفعل القراءة فينا؟ كيف تغير مصائرنا؟ هذه من أسئلة الروائي والناقد الأرجنتيني ريكاردو بيجليا في كتابه «القارئ الأخير».
ينطلق بيجليا، ليصل إلى القارئ عبر الكاتب نفسه: الكاتب القارئ الذي تدور حياته بالأساس حول فعل القراءة، وهنا يتناول كُتّابًا مثل بورخس، كافكا، جويس، ليلتقط صورة لمصور. إنه هنا يقف على الناصية الأخرى ليعيد تعريف فن القراءة، ليعيد تشييد المدينة التي اندثرت في الواقع أو حلت محلها مدينة جديدة، فتكون استعادة النص بمثابة العثور على الأثر القديم. لكن، إذا كان الكاتب كقارئ أحد محاور الكتاب، فالمحور الآخر هو القارئ داخل الرواية نفسها، القارئ، مثل إيمّا بوفاري، الذي تنقلب حياته رأسًا على عقب حين يقرأ كتابًا يضعه أمام نفسه، أمام حياته الخربة وتطلّعه لحياة أخرى. القارئ، كما عند بورخس في الكثير من قصصه، الذي يتقفى الأثر داخل العمل، في رحلة ميتافيزيقية عبر الزمن، غامضة ومشوّقة. والقارئ في الروايات البوليسية، الذي يقوم بدوره المخبر السري، الذي إمّا يقرأ أوراقًا تخص القتيل أو القاتل، أو تتحوّل القراءة عنده لقراءة الواقع ليصل لفك اللغز. أو القارئ مثل دون كيخوتيه الذي يقرأ كتب الفروسية ويخرج مستلًا سيفه ليحقق المثالية، وهو يتشابه مع القارئ تشي غيفارا، الذي لازمته القراءة مثل ظله منذ الطفولة وحتى الممات، فكان يقول إن متعته الوحيدة في الحياة: القراءة والتبغ.
يسرد ريكاردو بيجليا، كقارئ عظيم، تاريخ قراءته هو ذاته عبر الأعمال التي يستعرض قراءتها وتحليلها، فيقدم منظورًا حادًا وفطنًا لهذه الأعمال، ليعيد إليها الحياة بعمق نقدي متوقع في كاتب هو بالأساس ناقد وأكاديمي يتتبع أصول البحث العلمي من فرضيات تؤدي إلى نتائج شديدة المنطقية، ساعده في ذلك إجادته للعديد من اللغات كما ساعده كونه روائيًا وذا نظرة نقدية متفحصة. بل ويقينه كذلك أن الأعمال الأدبية قابلة للتأويل. من هنا جاء تحليله ليوميات كافكا، ليصل من خلالها إلى المرأة في حياته، ويربطها بأعماله نفسها ليقدم صورة ناصعة للكاتب التشيكي. المرأة في حياة كافكا، بحسب بيجليا، قارئة. لقد زهد كافكا في العالم ولم يكن في حاجة إلى أحد إلا هذه المرأة التي تزوره في قبوه، لتكتب ما كتبه بيده على الآلة الكاتبة، ولكي تكون قارئته الأولى. ليس كافكا وحده هو الكاتب الذي يحتاج إلى قارئة، تولستوي كان كذلك، وكانت صفة القراءة والصبر صفتين أساسيتين في المرأة التي تستحق أن تكون بجانب كل منهما. لقد أيقن هذا النوع من الكُتّاب أن وجودهم في الحياة كان بالأساس ليكونوا كُتّابًا، فلم يبحثوا في العالم إلا عمن يساعدهم في تحقيق هذه الغاية. إن ما أنقذ كافكا من الانتحار كان كتابة اليوميات، هذا ما يعتقده بيجليا، في حين رأى أن ذلك لم يحدث في حاله تشيزره بافيزه، حيث كان الانتحار مصيره بعدما فقد «قارئته».
يعتبر الفصل التأسيسي في كتاب بيجليا بمثابة العقد الذي بينه وبين القارئ: رحلة في القراءة لكن من منظور المصور الفوتوغرافي، من منظور المجاز. لذلك يحكي بيجليا في هذا المدخل عن مصور فوتوغرافي يعيش فوق سطح بيت مرتفع بمدينة بوينوس آيرس، وقد صنع ماكيتًا للمدينة، واشترط على زواره أن يشاهدوا منفردين هذا الماكيت. لم يكن الماكيت يشبه المدينة كثيرًا، إنها المدينة من وجهة نظر المصور، لذلك كان منطقيًا ألا يسمح للزوار إلا منفردين بمشاهدة ماكيته: لأنهم أيضًا يشاهدون المدينة التي يشاهدونها هم، لا المدينة الواقعية بالضرورة. هذا هو النص الأدبي، هذه هي القراءة. أما المؤلف، فهو صانع الماكيت، وبالتالي يصنع مدينة أخرى غير المدينة الواقعية، يصنع مدينته المتخيلة.
أما صورة القارئ التي يستلهمها بيجليا فهي صورة بورخس نفسه، الذي فقد بصره ولا يزال يصر على القراءة، صورته وهو في مركز المكتبة الوطنية بكتاب قريب من نظره. من هنا يقسّم الكاتب الأرجنتيني القارئ إلى نوعين: القارئ المدمن: القارئ الذي لا يتوقف عن القراءة؛ والقارئ الأرق: القارئ المتيقظ دائمًا. إنهما، بحسب المؤلف، تمثيلان متطرفان لما تعنيه قراءة نص، وتجسيدات سردية لحضور القارئ المعقد في الأدب. «قد أسميهم القراء الأنقياء؛ والقراءة بالنسبة لهم ليست ممارسة، بل أسلوب حياة».
يستدعي بيجليا، لتطبيق نظريته، عشرات القصص والروايات التي ظهر فيها القارئ، بمعنى «الرواية الميتافيكشن»، حيث نجد أنفسنا أمام روايتين أو أكثر، ونجد البطل نفسه قارئ داخل إحداهما، ومن بورخس إلى مالكولم لاوري، ومن كافكا إلى جويس إلى ثيربانتس «يخلق الأدب فردانية من يقرأ ويعرّفه، ويجعله مرئيًا في سياق محدد، ويسميه. والاسم ذاته هو حدث لأن القارئ يميل إلى أن يكون مجهلًا ومحجوبًا». القارئ، إذن، قد يكون مترجمًا، قد يكون ناقدًا، إذ بالترجمة أو النقد يظهر القارئ، يخرج من غرفته ليظهر أمام العالم، رغم أن ذلك لا يجعله القارئ الأهم ولا حتى قارئًا مهمًا مقارنةً بقارئ آخر بقي في الظل.
وكنموذج ناصع للقارئ في العمل الأدبي، يستدعي بيجليا قصة «طولون وأكبر وأوربيس ترتيوس»، القصة الأهم في عمل بورخس. تنطلق القصة من مقالة مفقودة في الموسوعة، وتدور القصة حول النص الغائب وليس النص الحاضر، وأثناء البحث يصل إلى واقع آخر. وعبر هذه القصة يتوصل بيجليا إلى أن القارئ هنا ليس فحسب قارئ الكتاب، «إنما القارئ التائه في شبكة من العلامات»، القارئ التائه مثله هو نفسه في دهاليز المكتبة، والمتاهة ليست فقط عند الكتابة، بل عند القراءة كذلك.
يتطرق بيجليا إلى القراءة كفعل سياسي أيضًا، كفعل قد يحدد العلاقة مع السلطة، خاصة في الأدب الأرجنتيني، إذ يتناول رواية «رحلة إلى الهنود الرانكليين» ويلتقط مشهدًا كان فيه الراوي يقرأ كتاب «العقد الاجتماعي» فتأتيه أوامر بالنفي الإجباري. القراءة أيضًا كفعل تمرد على الأوضاع السياسية، كمحاولة مستديمة للخروج من حيز الخطاب المهيمن. وبيجليا يستدعيه كصراع بين الحضارة والهمجية.
وبالعودة إلى بورخس مجددًا، فثمة القارئ المجرم، كما في قصة «الموت والبوصلة» التي تحولت إلى فيلم سينمائي. يقول شالارش: «قرأت تاريخ طائفة الحاسيديم… وعرفت أن الرهبة المبجلة من نطق اسم الله تضرب بجذورها في الاعتقاد بأنه اسم القدير والباطن». من دون هذا الاعتقاد، من دون هذا الكتاب المتخيل الذي يستخدمه القارئ (القاتل) ما كانت ثمة قصة. إنه نوع غير مطروق من القراء، وربما كان بورخس سابقًا لعصره في الالتفات لهذا القارئ، فكل القتل الاستعماري والقتل على الهوية كان منطلقًا من قراءة، من كتاب، ولعل مثال ذلك الواضح الاحتلال الإسباني للمغرب، الذي سبقه بحث بيولوجي أكد أن الإسبان من نفس الفصيلة الجينية للمغاربة، فكانت الذريعة العسكرية هي التمدد إلى جنوب المتوسط. القراءة السياسية أيضًا وجدت عند بورخس، رغم نحوه صوب البعد الجمالي والميتافيزيقي.
من بين فصول الكتاب الخمسة، خصص بيجليا فصلًا لإرنيستو جيفارا، ليقدم وجهًا آخر للمناضل اليساري. وجه الكاتب الذي سحبته الثورة إلى أرضها، رغم ذلك لم يتوقف عن تسجيل اليوميات كفعل كتابة لا يستطيع مقاومته، والأهم فعل القراءة نفسه. في مواقف حاسمة كان على غيفارا أن ينتقل بأشياء قليلة وخفيفة، فضّل حينها أن ينتقل بكتب تحت ملابسه. لقد أخلص غيفارا للقراءة حد أن القدر ربط نهايته بها. ففي الليلة الأخيرة التي بات فيها في مدرسة بعد إصابته، رأى على السبورة عبارة تقول «أنا أعرف القراءة» أحد الحروف كان مكتوبًا خطأ، فطلب من المدرسة التي ساعدته أن تصحح الخطأ، وكان ذلك، بحسب بيجليا، آخر ما نطقه المناضل اليساري.
وكاسترجاع لـ غيفارا كقارئ، يستشهد بيجليا بمشهد هو الأكثر دلالة على التشي، الأكثر تعبيرًا عنه، والوارد في كتابه «مشاهد من الحرب الثورية»: «سريعًا ما فكّرتُ في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة وقد بدا أن كل شيء قد ضاع. تذكرتُ قصة قديمة لـ جاك لندن، حيث البطل المتكئ على جذع شجرة يستعد لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمّدًا في المناطق المثلجة بـ ألاسكا. هذه الصورة الوحيدة التي تذكرتها». هذه الصورة الوحيدة التي تذكرها غيفارا تعكس ثوريته وكرامته التي هي كرامة الثورة نفسها، كما تعكس مرجعيته الثقافية. وبتحليل بيجليا، لقد وجد النموذج الذي يلائمه كثوري في قصة «صنع حريق» لـ لندن. ما الذي يمكن أن يستدعيه غيفارا حين يوشك على الموت؟ قراءاته. لنفس السبب كان يرى أنه غير صالح للعمل السياسي، لأن السياسة تجبره على التواصل مع الناس في حين أنه يفشل في ذلك، حتى رفاقه في الثورة كانوا يشتكون من انعزاله للقراءة. بمعنى ما، يعتبر غيفارا هو القارئ الأخير. القارئ المدمن، القارئ الأرق