إرث العصر الزيتوني

بالرغم من مرور وقت ليس بالقليل (أكثر من 15 عاماً) على زوال ما كان يعرف بـ “العصر الزيتوني” نسبة لطغيان وباء العسكرة ولونها الأشد طغياناً (الزيتوني)؛ إلا أن مخلفات وتقاليد وسلوكيات ذلك العصر ما زالت لا باقية وحسب بل تمددت الى تضاريس أوسع، بفضل من تلقف مقاليد أمور البلد بعد انتشال مارشال ذلك العصر من جحره الأخير. هذا الوباء (العسكرة) استباح كل تفصيلات العيش على تضاريسنا المنحوسة، وهو اليوم لم يعد محصوراً بأجهزة الدولة العسكرية والأمنية وحسب بل أوجد جيوشاً وأجهزة وفصائل مسلحة وثكنات خارجة عن نطاق سيطرة الدولة وقوانينها، وتحول بفعل الأحداث التي عصفت بالبلد بعد اجتياح عصابات داعش لأكثر من ثلث الأراضي العراقية؛ الى ما يشبه الطاعون الذي التهم كل ما تبقى من إمكانات وفرص لاسترداد الوطن لعافيته التي أهدرتها عقود من العسكرة والسياسات المتهورة. إن استمرار الموقف المتواطئ والمتخاذل من كل مظاهر العسكرة خارج إطار مؤسسات الدولة الشرعية، يعني انعدام أية فرصة حقيقية أمام ما يفترض أنها مرحلة للبناء وإعادة الإعمار. وقد برهنت التجربة على زيف ادعاءات هذه القوى المسلحة (عشائرية كانت أم عقائدية) تجاه مشروع بناء مؤسسات دولة فاعلة ورصينة، وظلت دائماً تبذل قصارى جهدها كي تبقى الدولة ومؤسساتها ضعيفة ومنتهكة وعاجزة عن أداء واجباتها الدستورية، وكي تبقى هي (الفصائل والعشائر المسلحة) الملاذ الأكثر موثوقية لقطاعات واسعة من سكان هذه المضارب المنحوسة. ومع مثل هذه المعطيات وتوازن القوى المختل لصالح القوافل المسكونة بهموم “العصر الزيتوني” يصبح أمر العراق الجديد حديث خرافة، وهذا ما تؤكده الأحداث من دون انقطاع، حيث تفرض هذه القوى ومن شتى الرطانات والهلوسات والأزياء؛ سطوتها وخطابها وضيق أفقها على قطاعات واسعة من المستضعفين واليائسين من نصرة الدولة والقانون لها.
لن نجافي الموضوعية والإنصاف، عندما نقول أن طبيعة القوى المتنفذة جميعها ومن دون استثناء؛ غير قادرة على الشروع بخطوات فعلية وشجاعة صوب مشروع بناء الدولة الحديثة، وهم جميعاً وبعيدا عن ادعاءاتهم واستعراضاتهم، لا يجيدون سوى موهبة إعادة تدوير المشهد الحالي، على اساس وطيد من تقاسم حصص الوليمة الأزلية. هذه المعادلة ستبقى تفرض تعاظم هيمنة الفصائل المسلحة وسطوة السلاح الخارج عن مشيئة الدولة والقانون، بوصفه السند الموثوق لحماية مصالح وإقطاعيات وامتيازات الكتل المتنفذة. كما لم يعد سراً حجم نفوذ هذه الفصائل وزعماءها، داخل مؤسسات الدولة ولا سيما العسكرية والأمنية منها، حيث تحرص هذه القوى على وصول ممثليها الى سنام تلك الوزارات والهيئات والمؤسسات، وفقاً لسنن نظام المحاصصة الذي شرع الأبواب أمام حيتان هذه الكتل لاستباحة ما تبقى من حطام الدولة وأسلابها. كما أهدرت سياسات ومغامرات النظام المباد، والذي اعتمد منهج العسكرة وإشعال الحروب وقيم الثكنات على شرائح المجتمع جميعها من دون استثناء، واصل ورثة أسلابه الحاليين نهج الدمار الشامل هذا من دون وجع من قلب أو عقل أو ضمير. لذلك نشاهد اليوم سطوة خريجو الثكنات وتلك المحارق على مقاليد أمور الدولة والمجتمع، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه لتصدي نوع آخر من الملاكات والزعامات لا علاقة لمواهبها وتخصصاتها بموروثات العصر الزيتوني، ملاكات ومشاريع ورؤى تؤسس على أنقاض الثكنات وأكداس العتاد؛ ورش للتنمية والبناء تعيد لهذا الوطن المنكوب عافيته وتوازنه واستقراره..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة