علي عبد العال
من أبشع الأحداث التي يمكن أن تحدث للبشر جميعاً في التاريخ البشري برمته، وخصوصاً في هذا العالم المعاصر، تلك الأحداث التي تجبرهم على ترك موطن عيشهم الطبيعي التاريخي الحميم بالإكراه. أي مغادرة جذورهم الطبيعية والإنفصال عنها قسريا. تلك الجذور والمعادلات الزمنية الطويلة الأمد التي تتعلق بالزراعة وتربية الحيوانات وتربية الدواجن، فضلا عن نكهة الأرض والبيوت القديمة وأماكن اللعب ودور العبادة ومقاعد الدرس ولون السماء وطعم الماء، تلك السلسلة اللامتناهية المتعلقة بالمكان والزمان تاريخياً وجغرافياً، عندما تنفصل عراها فجأة وبشكل قسري فتلك هي الكارثة الإنسانية العميقة بعينها.
هكذا نتعرض للإقتلاع من جذورنا ومن نخيلنا ومن أرضنا ومن تاريخنا الحضاري العظيم على يد شرذمة باغية من أدعياء الإسلام، من الأوغاد الجدد، عفواً، من المجرمين الأوغاد الجدد الذين يتنطعون بالدين ويلبسون مسوح الدين المزيفة باسم الإسلام. هكذا تجري الأحداث اليوم، وفي هذا العالم المتحضر في القرن الواحد والعشرين، الذي بلغ فيه العلم درجة من التقدم والرقي بلغت أعماق السماء وسبر أغوار الأرض. وهؤلاء الحثالات من الهمج تريد العودة بالتاريخ للوراء. التاريخ لا يعود للوراء. التاريخ يتقدم ولا يتراجع، العلم يتقدم ولا يتراجع هو ايضاً، الفكر الإنساني يتطور ويزدهر ليكون أقرب للتهذيب والسمو وليس العكس، أي التراجع إلى كهوف الظلام الفكري والهمجي والتخلف الخطير والمروع المحفوف بالقتل والحرق والنهب والسلب وهتك الحرمات من دون وازع من ضمير.
رجال الدين المزيفون يؤمنون بالتجارة والمال وكسب النساء والرجال بـ «الحلال»، ومن ثم ربح اللذة والقوة والسلطة والنفوذ المطلق. ومرة أخرى نكرر القول، عفواً لإستعمالنا هذه اللغة المليئة بالغضب والنفور من هذه الأكاذيب الساذجة التي تنطلي على نفر جاهل من الشعوب، اللغة التي قادتنا إلى إستعمالها شراذم بشرية لا تعرف اللغة ولا تعرف التهذيب ولا تعرف الدين. ترتد عليهم اللغة وتنعتهم بصفاتهم القذرة الوسخة التي تأنف منها حيوانات البرية. الحيوانات البرية أشرف بكثير من هذه الوحوش البشرية المريضة بأمراض الفكر الظلامي وأمراض الأيدز والسفلس والقمل يأكلها من الأحشاء المتعفنة بالمخدرات ولذة القتل ولذة الجنس والشذوذ وسفك الدماء البريئة تلذذاً همجياً.
الجذور التاريخية
للنزوح البشري الجماعي
قبل ظهور الأديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلامية، بل وقبل التاريخ المدون كله، كانت الأقوام البشرية تتنقل من منطقة إلى منطقة أخرى حسب حاجتها للعيش بابسط مقوماته. مقومات العيش كانت تتلخص بالمأكل والمشرب والأمان من كوارث الطبيعة المدمرة. كذلك كانت تفعل ممالك الحيوان على مر التاريخ. تلك تدعى بالهجرات الإجبارية طلبا للعيش والبقاء على قيد الحياة لأسباب تتعلق بالطبيعة والمناخ ومصادر المياه والطعام. مازالت تلك الإنواع من الهجرات تصاحب البشر حتى عصرنا الراهن. أوضح مثال على ذلك هجرات سكان الأرياف إلى المدن. وكذلك سطو البدو على الحواضر كما حدث في فجر الإسلام عندما غزا البدو في الجزيرة العربية التي كانت تُدعى ببلاد الحجاز ونجد، أولئك الصحراويون قطاع الطرق الذين تلحفوا بالعقيدة الجديدة والدعوة المحمدية، وغزوا بلاد الشام وبلاد الرافدين خلاصاً من الصحراء وشحة مياهها وشحة خضرتها ومن ثم استباحوا أقوام هذه المناطق وحضارتها العريقة بالسيف والعقيدة الجديدة التي دمرت جميع الصروح والمعالم الحضارية والإنسانية السابقة لها.
وحدث بالتاريخ العربي والإسلامي في أواسط القرون الهجرية المتأخرة ما قبل زوال نظام الخلافة في الإستانة أن هجم التتار والمغول من أواسط أسيا الصغرى، وهم أقوام بدوية جبلية شرسة ومقاتلة غزت جميع الحواضر والمدن الجديدة التي دانت بالعقيدة الإسلامية وحطموها شر تحطيم. وهي قبائل همجية لا تمتلك عقيدة سوى عقيدة القوة وجبروت السلاح والقتل والإذلال لمن يتصدى لها أو يقف بوجهها.
تطور مفهوم النزوح البشري من منطقة إلى منطقة أخرى طلبا للماء والكلأ حسب المفهوم البدوي الذي يشمل الإنسان والحيوان على السواء ليتحول إلى ظاهرة سياسية في العصر الحديث. ظاهرة سياسية مخجلة ومذلة لمفهوم البشرية في جميع الأزمان وجميع الإمكنة. كان الخوف من الطبيعة وشحة مصادرها الطبيعية هو الحافز الجوهري والعنصر الأساس المسبب لهجرات الشعوب والأقوام عن ديارها الأولى طلبا للأمان والأكل والأستقرار الاجتماعي البسيط بكل أشكاله البدائية. يثبت العلم الحديث أن الأقوام الأوروبية الحالية منشؤها الأول وجذورها التاريخية تعود للهجرات القديمة قبل ملايين السنين من أفريقيا، وبالتحديد من أثيوبيا الحالية نحو أوروبا. هناك الكثير من البحوث الجادة في هذا المضمار الأركلوجي والبيلوجي المتخصص بالجينات تؤكد هذه النظريات العرقية وأصول السلالات البشرية قبل ملايين السنين.
عندما تستوطن القطعان البشرية التائهة الباحثة عن الأمن والحماية الطبيعية، وتأنس وتتأقلم بالمكان والحيّز الجغرافي المتاح لها بعد الحصول على ضمان الطعام والماء فهي تبدأ من غير شعور بخلق عامل الاستقرار الذاتي في الحيّز الجغرافي المتاح لها أرضاً ونهراً وبحراً وجواً، وبالتالي يصبح المكان الجديد ملكاً لها ووطناً بالمفهوم الحديث. هنا تتبدل مفاهيم السلالات البشرية والأعراق حسب الدراسات التاريخية العلمية والبيولوجية الحديثة المستندة الى علم الجينتسك الذي لا يقبل ولا يدع مجالا للشك بأصول تلك الأقوام.
الأوطان تتشكل بشكل بدائي في المرة الأولى، ومن ثم تتحول إلى فرق بشرية متنافرة حسب طبائعها وقوتها، يستولي بعضها على البعض الآخر في سبيل الحصول على المنافع الأكثر والأجدى نفعاً. ومن ثم تتحول تلك الفصائل البشرية ذات المنبع الواحد إلى فئات وقبائل متصارعة تصنع الأسلحة المتفوقة الواحدة منها على الأخرى. وتشحذ السيوف ويتم أختراع كرات اللهب والمنجنيق وبالتالي يقتلون بعضهم البعض حسب قوة السلاح. دائماً كانت الشعوب هي الضحية الأولى والأخيرة لهذا السعي البشري من أجل السيطرة على مقدرات وأرزاق تلك الشعوب ووضعها غالباً في مرتبة العبيد من قبل الملوك والأمراء الأكثر قوة اقتصادية وسياسية تملك وتتحكم بالأقوام الضعيفة بسبب أمتلاكها مصادر القوة من سلاح ومال وأستعداد دائم للبطش من دون رحمة بالآخرين.
النازحون في العصر الحديث:
قرار سياسي عنصري بإمتياز
شهد التاريخ البشري السياسي المعاصر أبشع حملات التهجير القسري ضد الشعوب المسالمة والبريئة المتوطنة باماكنها عبر آلاف السنين. إذ نعتقد ونتبنى القول في العلم الاجتماعي السياسي الحديث أن مفهوم التهجير القسري للشعوب يتم اليوم على وفق منظومة سياسية لها أهداف عنصرية وأثنية بعيدة المدى على صعيد تغيير الديموغرافيا في المناطق البشرية ذات التنوع العرقي. الهدف الرئيس يتمثل دوماً بمحاولة تغييب المعالم التاريخية وطمس الملامح والشواهد الكبرى لتلك المناطق وشعوبها لصالح الفئة البشرية الأقوى، فسوف نفهم البعد العالمي للمخططات الرامية إلى تهديم هذا التوافق والصرح الاجتماعي التاريخي العريق الذي أتسمت به مناطق الحضارة في الشرق الأوسط التي مازالت محط إهتمام وتقدير علماء الاجتماع والتاريخ على الرغم من التخلف العلمي الذي يحيط بها حالياً بسبب ظروف الأديان المتخلفة وعنصر الإستعمار الذي نهب الثروات وجعل الناس كالعبيد له حتى الآن. يجب أن يُزال التاريخ ومعناه ومفهومه العلمي من هذه المناطق الحضرية التاريخية الأصيلة والأكيدة بسبب العقدة الحضارية والأخلاقية التي تنتقص من التفوق الغربي على عالم الشرق الذي إنبثق منه عنصر الديانات والتوحيد والقبس الفكري الأول بالعلوم وأسسها الأصلية، نقصد السومريين والبابليين والفراعنة. لا نذهب بعيداً بالقول بإن الشرق المخدر والكسول يضاهي معرفة الغرب العلمية المتطورة حالياً، لكننا نزعم أن الغرب مثخن بالإنانينة والغرور بحيث لا يريد حتى مجرد التعريف بحضارة وفضل شعوب الشرق الأوسط على حضارته الراهنة رسمياً، إلا من قبل بعض العلماء النادرين في الأوساط العلمية الأوروبية والغربية عموماً. يجب تحويل تلك المناطق وأولئك البشر إلى مجرد قطعان بشرية بلا أمجاد تبحث عن رغيف خبز شحيح وهي البلاد المليئة بوفرة الماء والثروات الكبيرة الأخرى. الدليل الكبير على هذا الزعم هو المجازر التطهيرية التي ارتكبها النازيون الألمان ضد اليهود ومحاربة العنصر السامي تحت شتى المفاهيم الاجتماعية والدينية والاخلاقية اللاأخلاقية بالواقع. أرتكبت النازية، وهي تعني «العرق النظيف»، أبشع المجازر بحق الشعب الألماني وفصّلته حسب الأعراق وحسب الطبقات الاجتماعية إلى فئات متمايزة عن بعضها البعض، طبقات حقيرة وفئات من الناس يتحتم إبادتهم جملة وتفصيلا عن بكرة أبيهم. وجرى ذلك حقاً وتم أختراع أفران حرق البشر وتذويبهم بالأسيد، وتهجير ممن نجا منهم عن ديارهم نحو الشتات وإلى المجهول أو الموت المحتوم ونحو المهالك الجديدة والمعتقلات الرهيبة ومعسكرات الإذلال البشري في البلدان الجديدة. هتلر عمل كل شيء للحط من قيمة البشر المشكوك بإنتمائه للعنصر الألماني، وهو لم يكن ألمانيا حقيقياً. هو نمساوي من الجنوب الألماني الذين يشعرون بالضعة إزاء العرق الألماني الحقيقي الأصيل. هكذا يفعل دوماً المتطرفون، يصيرون ملكيين أكثر من الملك، ووطنيين أكثر من المواطن الحقيقي. وعلى غرار القول السائد إن الضحية تقلد جلادها، نرى كيف فعل اليهود بسكان فلسطين عندما منحهم الغرب حق إنشاء دولة على أرض فلسطين في عام النكبة عندما هجروا وأبادوا سكان فلسطين ونهبوا بيوتهم وأرضهم بل وحتى أطفالهم الرضع عام 1948 ومازال الحبل عالجرار حتى يومنا الراهن.
التهجير الحالي عمل سياسي عنصري مسبق التخطيط
يصّنف الفكر السياسي الحديث عالمياً أعمال التهجير القسري للبشر من مواطنهم وحواضرهم الطبيعية كونها «سياسة نازية». النازية تعني بالمفهوم السياسي الحديث «العنصرية القومية أو العرق النظيف». السلوكيات السياسية والأفعال الحكومية والفردية من قبل الجماعات المتحزبة التي تتعلق بالتهجير العرقي والديني هي أعمال وافعال «نازية» ضد قوانين وأعراف الأمم المتحدة. التهجير القسري للبشر عن مناطق سكناهم ومصادر عيشهم الطبيعي يُعد من الجرائم القانونية حسب اللوائح التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان عام 1948.
وكما أعتمد هتلر سياسة النفي والتهجير القسري والإبعاد لمجاميع من مواطنيه تحت حجج وذرائع عنصرية بحت تبتغي الرفعة للعنصر الألماني على بقية الشعوب، وهو خطأ اجتماعي وسياسي فادح، عمد مثيله المزيف ونسخته العربية المشوهة الدكتاتور صدام حسين عندما اقترف الخطأ ذاته بمعاملته للأكراد الفيليين وشريحة كبيرة من العراقيين العرب من أطلق عليهم «التبعية الإيرانية» وهم عراقيون أصليون الذين ينتمون إلى أعرق القبائل العربية التي أستوطنت وادي الرافدين منذ عشرات القرون. والأكراد الفيليون كما هو معروف، هم شريحة وطنية عراقية من شرائح المجتمع العراقي التي تفاعلت وعملت وخدمت بالجيش وجميع مرافق الدولة العراقية أسوة بجميع شرائح المجتمع العراقي، وشملهم بالتطهير العرقي وتم طردهم وتشريدهم وتهجيرهم بأبشع الطرق الهمجية التي يندى لها جبين البشرية على مر التاريخ، وهم عراقيون أسهموا ببناء العراق واثروا تنوعه الاجتماعي والسياسي بطيف جميل وراقٍ يتميز بحب العراق والتضحية من أجل ترابه وبذل العطاء والعلم والخبرات والدماء من أجله. لكن الفكر القومي العنصري النازي لا يؤمن إلا بعناصره المحدودة. عناصره الهمجية المتخلفة التي وصلت إلى أعلى الهرم السياسي عن طريق الغصب والقتل والإجرام، وليس عن طريق الشرعية الشعبية أو الدستورية كما فعل هتلر ذاته على سبيل المثال.
الخلافة النافقة وأسس
الإبادة الجماعية الراهنة
عدا الهجرات الجماعية للمواطنين في العراق وسوريا هرباً من المعارك الطاحنة بين القوات الشرعية وشراذم القتلة المأجورين من جميع أصقاع العالم والمدعمة من قبل الأوكار الظلامية في دول الخليج العربي الرجعية وتركيا، وشراذم المجرمين من باكستان والشيشان وأفغانستان والمغاربة والمغرر بهم من المصريين والتونسيين والليبيين وغيرهم من الأقوام الأخرى، تم الإعلان عن دولة الخلافة الإسلامية بزعامة العراقي الإرهابي أبو عمر البغدادي، تلك الدولة الإسلامية المفبركة والنافقة منذ اليوم الأول من ولادتها سفاحاً، أعلنت بشكل رسمي وعبر بيانها الأول عن تهجير المسيحيين العراقيين من ديارهم، إضافة إلى غيرهم من الملل التي لها طقوسها الدينية الخاصة بها عبر آلاف السنين، وحتى المسلمين الذين يخالفون دولة الخلافة المسخ الرأي والمعتقد. ووضع خيارات وشروط أحلاها ينقط بالسم والمرارة. فإما اعتناق الإسلام وإما دفع الجزية كالغرباء وإما القتل والتهجير.
تكمن الأسس الجوهرية لهذه الخطوات ذات الرائحة التاريخية النتنة التي تزكم الأنوف عبر التاريخ البشري في تغيير الوضع الديموغرافي والاجتماعي في العراق وسوريا ولبنان في عمليات إجرامية من التطهير العرقي لتفكيك النسيج البشري في هذه المناطق التاريخية وإفراغها من محتواها الفكري والحضاري وجعلها مناطق هشة ومتخلفة يمكن لأي فئة ضعيفة باغية السيطرة عليها واغتنام ثرواتها وتخريبها والعبث بمقدراتها لقرون قادمة. تتكالب هذه القوى الهمجية المتسترة بالدين، مدعومة من قوى ظلامية لها المآرب ذاتها بتدمير العراق وسوريا وجميع الحواضر السكانية ذات الطبيعة المتحررة والراغبة بالتطور والتقدم والأزدهار. تحطم هذا المشروع الهمجي في سوريا إلى حد كبير، ويبقى دور العراق القادم بشعبه وقيادته السياسية أياً كان نوعها بدحر هذه المخططات الإجرامية ذات الأبعاد الأقليمية والدولية. دور العراق القادم والمنتظر له القول الفيصل في هذا المفصل التاريخي الشديد التعقيد. لكن العراق الكبير بشعبه وبتاريخه الحضاري العريق قادر على هزم هذا المشروع المسخ الذي يريد به التقهقر والركوع والنكوص للوراء.