العراق.. أفول المكونات وجفاف المدن

كريم حنش *

التلاعب بالجغرافية السكانية من قبل قوى سياسية تمتلك زمام القرار احد اهم الكوارث الانسانية التي تعانيها الشعوب المغلوب على امرها . فكل شعوب العالم المستضعفة خضعت لمعايير القوة التي تفرضها الدول الاقوى . ومثل القرن الخامس عشر الميلادي اثرا في تبدل الحياة الاجتماعية بنزوح الملايين من اوربا الى العالم الجديد قي الامريكيتين مما شكل وبالا عى الشعوب الاصلية القاطنة بامان فقد تعرض الهنود الحمر الى عمليات ابادة جماعية وتهجير باعماق الغابات والمناطق النائية عبر حوض المسسبي والصحارى القاحلة حفاظا على ما تبقى من استئصال.
وقد بلغ ضحايا الهنود الحمر في الولايات المتحدة 75 مليونا ناهيك عن الصراعات الاوربية في افريقيا وما صاحبها من نزوح وتهجير وابادة من اجل المال والارض والاستيطان كبديل للشعب الاصلي . العراق كارض وماء وثروات وزراعة يعطي معنى ذات دلالة لكل الاقوام الوافدة التي نزحت من الجزيرة العربية غربا او الاقوام التي نزحت من الشرق لشكل هذا الكيان . فيعد الحاضنة للاقوام السامية كالاموريين والاكديين والبابليين والاشوريين والكلدانيين اما القادمون من شرق العراق كالمديديين والعيلاميين وحتى السساسانيين فهي اقوام اسست حواضر جاءت عبر نزوحات فرضتها ظروف تاريخية قاهرة.
نمرود . نينوى . الشرقاط . مدن اشورية , بابل . اكد . مدن سامية. طيسفون . المدائن . ساسانية وسولقية , دور كولي كالزو في بغداد عيلامية , ميسان فارسية , الحضر . الحيرة . القادسية . ذي قار. الابلة عربية , ارض النهرين ( العراق ) بتواصلها التاريخي ظلت كحاضنة نزوح لكل الاقوام والشعوب المحيطة بها واصبحت مركزا حضاريا عبر قرون عديدة وكتب عنه المستشرقون والاثاريون ما ينصف دوره في التاريخ العالمي . كريمر . فرانك فورت. بروكل مان. ماسنيون وغيرهم . النزوح الاول للعراق جاء عبر السبي البابلي لليهود من قبل نوبخذ نصر برمحلتين عزز تواجد اليهود.
في العراق اختلاط واضح للمفاهيم والعادات والطبائع بالرغم من الطريقة القسرية التي اتت بهذه المجموعة فقد شاركت بعد تعاقب السنين بتكوين موروث لهوية عراقية اصيلة. حتى الفتوحات الاسلامية للعراق بعد وفاة الرسول الكريم عام 11ه لم تظهر لاصحاب الديانات الاخرى عداوة يكون ضحيتها اسالة الدم او التهجير . عملت الصهيونية العالمية والاستعمار البريطاني بدور غير انساني ذهب ضحيته يهود العراق عبر تهجير قسري الى اسرائيل ساعدته الحكومات في العهد الملكي بتنفيذ هذا المخطط ارضاء لبريطانيا العظمى.
آخر عملية تطهير ليهود العراق نفذها حزب البعث عام 1969 باعدام عدد من يهود العراق في ساحة التحرير امام مرأى من الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين . كذالك نفذ حكم الاعدام بعزرا ناجي زلخة في البصرة وبذلك دشنت اخر صفحة انسانية لشعب متأصل مثل الجانب المشرق لحياة عراقية متداخلة مع بعضها فقد عززت روح الاندماج الحضاري مع ابناء الشعب العراقي ورفدة بساسة وفنانين ورجال اعمال وعلماء واطباء شكلوا الحاضنة الانسانية للمجتمع العراقي.
لكن الاقدار كانت الاقوى ؟ فما حال يهود العراق فيما لو لم يهاجروا ويصلوا الى هذه الظروف الماثلة لمروا عبر مخاضات عديدة اهمها ابادة جماعية اشبه بما حصل لمجزرة الهولوكست في المانيا النازية ضد اليهود العزل . التهجير والنزوح الطائفي واالعرقي في العراق الحديث مر بظروف تحكمها تدخلات الدول المحيطة بالعراق بالاضافة الى الدور البريطاني المهيمن بتحريك الوضع السياسي والاجتماعي آنذاك.
يذكر ان اول عملية تهجير للشيعة العراقيين من جذور غير عربية ضمن وزارة عبد المحسن السعدون بسبب الدور الوطني الذي لعبه هؤلاء ضد الانكليز . وقد عزز حزب البعث بعد سيطرته على السلطة للمرة الثانية عام 1968 من خلال عدد من الوسائل القصد منها بسط سيطرتة على السلطة فباشر بتهجير عدد كبير من العراقيين (التبعية ) وهؤلاء عراقيون اصلاء لكن الحجة الواهية تكمن في ممارسة الشعائر الحسينية والطقوس الاخرى. تلك الامور اثارت حفيظة البعث الطائفية فباشر بتهجير الالاف من العراقيين الى ايران منذ بداية العقد السبعيني فافرغت مدن النجف وكربلاء والكاظمية والصدرية بالاضافة الى مراكز المدن الحددوية لايران كبدرة وجصان وشيخ سعد وعلي الغربي والعمارة وقلعة صالح والحلفاية هذه المدن تعرضت لعمليات مسح سكاني يحمل الطابع الهمجي والعنصري من قبل سلطة البعث الصدامي. والحجة اكبر من الوسيلة عبر الممارسة القمعية اتجاه عراقيين قاطنين في مدنهم منذ عشرات السنين.
كذلك تعامل البعث مع الاكراد الذين تمردوا عام 1961 بقيادة مصطفى البرزاني الى عمليات تهجير قسري من مدن الشمال الى مدن الجنوب كالعمارة و الناصرية والبصرة . هذه النزوحات الداخلية والخارجية لاتخلو من استثمار ضعاف النفوس الساسة باستغلال وعيهم بتحقيق مكاسب شخصية الهدف منها السيطرة وتحقيق مشروع الانفصال القسري كالحالة الكردية ضد عبد الكريم قاسم اذ استثمرها البعث وحاول بشتى الوسائل تهميش الاكراد مستعملا القتل والتهجبير بالمقابل موقف البرزاني كان غير موفق ضد شعب العراق وثورة 14 تموز تبقى الحرب العراقية الايرانية 1980_1988 احد اهم الاسباب باقدام صدام حسين بعملية تهجير للاكراد والشيعة الى ايران فقد فرغ العراق من محتواه الاخلاقي بتهجير هؤلاء الناس بطريقة غير انسانية فقد حجزهم في جملونات تفتقد الى ابسط مقومات الحياة ونقل كثير من العوائل الى سجن نقرة السلمان والامن العامة والفضيلية و قصر النهاية , اخر تبديل سكاني حدث في كركوك عام 1970 بنقل وتشجيع العوائل الفقيرة من مختلف محافظات العراق واستيطانها هناك لملء الفراغ عقب تهجير بعض العوائل الكردية . لكن صدام حسين كطائفي احس بالخطر الشيعي وحاول تنفيذ ما يشبه المادة 140 وما فعله الساسة الان وقام بتشجيع عوائل الجبور والعبيد والبومفرج بالاضافة الى تعريب القبائل البياتية من اصل تركماني وبعض القبائل الكردية بالمقابل تقديم يد العون المادي والمعنوي محاولا إرجاع العوائل الشيعية الى مناطقهم الاصلية حتى مناطق الاهوار في العمارة والناصرية والبصرة تعرضت الى عملية تهجير الى مراكز المدن واصبحت وبالا على المدن القاطنة بها بفرض سيطرتها على مقدرات المدن والقصبات مستغلة نفوذها فقد اجهز (سكان الهور) بعد تغيير 2003 للسيطرة على المدن الجنوبية مستغلين فراغ الدولة وهيمنوا على الوظائف في الجيش والشرطة و المقاولات وبذلك دشن الدور العشائري المتخلف وازيل حلم العراقيين بدولة لا تبخس حق المواطن .
المرحلة الاخيرة لعملية التهجير الطائفي العرقي بدأت شرارتها عام 2003 كانت الولايات المتحدة الامريكية صادقة بمشروعها التحرري لكن قادة المكونات العرقية والطائفية حملوا ضغائن السنين المليئة بركام الشوائب التي لاح افقها وطغى ما هو ماثل الان احدى عشر سنة تمضي والصراع الطائفي قائم.
القادة الاكراد بعيدون ومتفرجون حول ما يدور في بغداد من صراع بين السنة والشيعة. التهجير والقتل بين الطرفين قائم كل يمثل طائفته الشيعة بميلشيات والسنة بميليشيات لا يوجد احتكام للعقل ولا ننسى الشرارة الاولى لحرب اهلية معلنة بدأت بضرب الامامين . فقد قامت الميلشيات الشيعية بعملية ابادة واضحة لأهل السنة بالمقابل استمر اهل السنة بخطف الشيعة عبر مرورهم بالمناطق والمدن التابعة لهم لكي نكون موضوعيون ونبحث عن راي منطقي للحقيقة التي تكمن في نفوسنا كعراقيين نلمس ان العراق قد بات شبحا ينهشه الساسة والنفعيون والجهلة من مختلف الاعراق . والا ما ذنب الطوائف التي تهجر من تلعفر وسهل نينوى وسنجار وتكريت وغيرها لو ان الحكمة والعقل والاخلاق كانت حاضرة لدى كل الساسة. لكن راس السلطة بكل توافقاته يتحمل مسؤولية هذا العناء المضني.
نحن امام منعطف افول مكونات كانت راسخة لديها الروح العراقية كتركمان تلعفر ومسيح سهل نينوى وايزيدية سنجار لكن المحنة يثيرها الافاقون والادعياء ويتحمل وزرها الابرياء وهم يستنجدون بالولايات المتحدة الامريكية بعد فوات الاوان.
ذكر بايدن فيما مضى بان النفط هو الوسيلة لتوحد العراقيين لكنه اصبح اداة لحروب القادة ورسالة للانفصال ووسيلة طمع للدول المجاورة للعراق التي تحاول تمزيقه من خلال قوى داخلية تحمل الضغينة.
مازال العراق يعيش اشر فتنة لا يلوح فيها افق السلام والتوحد ويذهب ضحيتها الابرياء ويستثمرها الساسة القصر. لكن التاريخ السالف ربما يحمل بصيص من الامل يجعل من هويته المتنوعة تستعيد الحلم القديم . انه تعليل للأمل فهل يبقى مسيح نينوى ويزيدية سنجار وتركمان تلعفر وهل يرجع تداخل الاقوام كما كان في السابق والا ما ذنب البصرة في جفاف مدنها من مكون هام الزبير والفاو وابي الخصيب بدائلها تفرض نفسها بجحيم الافكار انه حلم لدى الرأي العام المعتدل وجريمة يرتكبها اصحاب القرار السياسي والديني في العراق. والحكمة اصبحت احد مناظر التاريخ.
*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة