مشاهدات: «خازار» عنوان عارٍ على جبين العراق «الجديد»

عامر القيسي

لم يكن ابو محمد الستيني العمر ، المتغضن الجبين، اليائس من الحلول، يتصور في اسوأ كوابيسه المتلاحقة ، ان يجد نفسه مع عائلته المكونة من اربعة اطفال نازحين في مخيم يفتقد لابسط شروط الحياة البشرية وليس الانسانية ، اكبر اولاده محمد ابن العشر سنوات واصغرهم همام الرضيع الذي ولد قبل شهرين من التاريخ الفاصل في حياة مدينة الموصل والعراق الجديد، في العاشر من حزيران الماضي، عندما انهار الجيش العراقي والقوات الامنية في مشهد دراماتيكي امام مجموعة من نفايات داعش وهربت قيادة نينوى السياسية الى ملاذات آمنة كما فعلها القادة العسكريون ، وسط ذهول ، ليس ابو محمد فقط، بل المدينة باسرها والمحافظة والبلاد وحتى العالم المتابع للقضية العراقية.
يقول ابو محمد «كان حدثا يفوق التصور ربما كان الاحتمال قائما لكن الطريقة والسرعة التي حدثت فيها الكارثة اثارت علامات استفهام واسئلة مما جرى في المحافظة».
النازحون بعد العاشر من حزيران من الموصل الى أطراف اربيل المتجمعون في مخيم خازار للنازحين، أتعس حظا من الذين سبقوهم بالنزوح ، الذين استطاعوا ان يدخلوا الى اربيل والسكن في الشقق المؤثثة (الموتيلات) والفنادق ، وحصلت المئات من العوائل على موافقات امنية باستئجار بيوت لهم داخل اربيل، فيما لم يستطع البقية الحصول على هذه الموافقات ما حملهم كاهلا ماليا كبيرا بستنزف قدراتهم المالية تدريجيا.

خازار .. عار البلاد
تقول احصاءات غير رسمية ان عدد العوائل التي تعيش تقطن المخيم والتي جاءت هاربة من مدينة الموصل نحو 1700 عائلة تحتويهم بحياة بائسة نحو 400 خيمة قدمت من الامم المتحدة لاعانة النازحين.
وتواجه هذه العوائل ظروفا اكثر من قساوة على مستوى الاحتياجات المادية كالادوية والطعام فضلا عن افتقار المخيم الى ابسط ضرورات الحياة الانسانية التي اصبحت ترفا ليس للاجئي الموصل وانما للاجئي المحافظات التي تشهد عمليات عسكرية والتي تسمى عادة بالمحافظات الساخنة ، والحقيقة انها محافظات محترقة ، والهارب منها كمن كتبت له حياة جديدة ، بعد ان فرّ من القصف والقتل والاختطاف والاعدامات الميدانية والتصفيات السياسية ووحشية داعش التي لاتستثني احدا والقصف العشوائي !!
وأعربت الأمم المتحدة، عن «قلقها من ارتفاع مستويات العنف وعدم الاستقرار في مختلف أنحاء العراق وأثرها على حياة المواطنين اليومية، وفي حين رصت مقتل وجرح 18400 شخص منذ بداية سنة 2014 الحالية، أكدت على ضرورة تمكين المدنيين من مغادرة المناطق المتضررة من العنف بـ>كرامة وسلامة>، واحترام حقهم في الحصول على المساعدة الإنسانية بنحو <فوري وآمن ودون عوائق».

اطلقوهم انهم بشر..
عاتبني احد الاصدقاء على استخدام مفردة العار في عمود لي توصيفا لحالنا بعد تهجير المسيحيين من الموصل ، وقال آخرون ان التهجير لم يكن وليد اليوم فقد تم تهجير عوائل مسيحية كثيرة من البصرة الى بغداد على يد ميليشيات شيعية متطرفة وتناقصت اعداد المسيحيين الى نحو النصف في واحدة من اهم اخفاقات زمن مابعد التغيير في الحفاظ على اللحمة الوطنية وتعميقها..
ونكاية بالعتب اقول لصديقي العزيز أحدثك عن العار الثاني في مخيمات اللاجئين من نينوى على اطراف مدينة اربيل، فقد شاركت بزيارة تضامنية لمخيم “خازر” المتمدد وسط العراء والنائم على الاحلام المغتالة والحاضر المأساوي والمستقبل المجهول والرياح التي تكنس من امام خيمهم كل احلامهم ..
شيء من الخيال ان تتصور عراقيا لاجئا في وطنه يتحسر على نجعة ماء صاف ، لكن كل الخيال رأيته امامي في المخيم ، بقيت مصدوما وانا استمع الى حكايات وقصص واحقاد وامنيات ومطالب نزعت الكثير منهم هويتهم الوطنية ، فاصبح الوطن طارئا ومنبوذا وبلاد الله الاخرى هي الوطن والملاذ والمرتجى ..!!
«يبلغ عدد الخيم حوالي (700) خيمة بمعدل (5 – 6) أشخاص لكل خيمة، أي حوالي (4000) نازح من الجنسين ومن مختلف الأعمار.ويفتقر المخيم إلى: أدوية الأمراض المزمنة/ برّادات لحفظ هذه الأدوية خصوصاً الأنسولين/ أدوية الصرع/ مواقد صغيرة للطبخ تعمل بالكاز أو النفط/ حفاظات للأطفال الرضع، وفي المخيم مستوصف واحد يعالج الحالات البسيطة، أما الحالات الصعبة فلا علاج لها، والولادات تحدث بدون تخدير وبدون وجود طبيبة نسائية!!»
اطفال قذرون بخوطون في الاترية..
رجال زاغت نظراتهم في المجهول وثلمت رجولتهم ..
نساء فقدن اي اثر للانوثة وتلفعن بالحزن والاحلام الضائعة ..
يقول الروائي الكولومبي ماركيز لصحفي سأله عن خيالاته واجوائه السحرية في اعماله الادبية فقال له نصا “الواقع اغرب من الخيال”..
في مخيم خازار للاجئين العراقيين تحققت هذه المقولة تماما دون تزويق ، وللاسف يعتقد المسؤولون ان حل القضية بسيط جدا وهو عبارة عن توفير الخيم والاكل، بانتظار المعجزات..
مسؤلوون جاءوا وغادروا تاركين خلفهم الوعود بالعودة التي سرعان ما تبددت مع مرور الايام ..
مسؤولون جاءوا وغادروا تطايرت خلفهم، مع تراب المخيم، وعودا بالسماح لهم بمغادرة المخيم والانتقال الى محافظات عراقية وليس الى دول اخرى، وسرعان ما تحولت الوعود الى اسوار يعيش خلفها كائنات لاتعيش عيشة البشر..!!
يقول رشيد الحجي ن هكذا يلقبونه داخل المخيم «شهدنا في المخيم «اشكال وارناك» من المسؤولين من رئيس البرلمان وانت نازل والحصيلة هي اطنان من الوعود وهواء من الانجازات .. لاشيء بمستوى ما نعاني منه ، كلهم يتحدثون لكنهم لايفعلون شيئا» ، واضاف « فقط المنظمات المدنية من كردستان وبقية المحافظات تقدم لنا الاكل والماء « وتساءل « هل هذه هي الحياة؟ « ، وطالب بان يطلقوهم فهم بشر «.. وايد مطلبه كل الذين كانوا يستمعون اليه وهو يتحدث بنبرة حزن، من النازحين « .. وعلق سمير احمد ، وهو مدرس ترك عمله لخوفه من ان تصفيه داعش «لايستطيعون اعادتنا الى بيوتنا لانهم سبب المشكلة ، وما حصل لنا وسيحصل هو نتيجة لصراعاتهم السياسية»!!
يسمعون من الاذاعات عن مليارات الاموال التي ستصلهم قريبا جدا ، لكنهم يغسلون اياديهم بالتراب تساوقا مع اكاذيب غيرها يطلقها المسؤولون عن الوطن والناس..!!
مليارات الدولارات قيل انها صرفت من خزينة الدولة لمنح كل عائلة نازحة 500 الف دينار ، لكن ابو محمد يعود ليذكر بالمثل الشعبي العراقي « اواعدك بالوعد واسكيك ياكمون» تعبيرا واقعيا عن الوعود التي تمنح بكرم ولكن ..!!
بدون الدخول في التفاصيل الخيالية المؤلمة والصادمة والتي تحسسنا بالعار المزدوج ايضا ، استطيع ان الخص مطاليبهم ،أو مطلبهم الاساس ، بعد ان يأسوا من كل ما قيل لهم من وعود هي اكاذيب بلا حدود …بـ «اطلقونا»!
تقول الامم المتحدة أن <أكثر من نصف مليون شخص قد نزحوا منذ حزيران المنصرم، ليصل مجموع النازحين خلال سنة 2014 الحالية، إلى أكثر من مليون و400 ألف شخص».
وكشفت مفوضية حقوق الإنسان أن عدد النازحين داخل العراق تخطى المليون و250 ألف شخص، موزعين في عموم العراق، منتقدة بيروقراطية الحكومة التي أدت إلى تعطيل إيصال المساعدات لهؤلاء.
وتتفاقم ازمة النازحين، في ظل عجز او عدم اتخاذ اجراءات فعلية من قبل البرلمان أو الحكومة، أو حتى من الجهات ذات العلاقة بالمهجرين والتي يرى الكثيرون ان خطواتها بطيئة لا تتناسب مع حجم الكارثة التي حلت بالشعب العراقي المنكوب.
«افتحوا لنا الابواب واطلقونا .. فنحن بشر اذا كنتم لاتحسبونا على العراقيين !!».. هذا هو لسان حال 4000 عراقي من النازحين في خازار العار .. اطلقوهم !
يقول تقرير محلي عن اوضاع مخيم خازار «عدد المرافق الصحية البدائية لا يزيد عن (25) تواليت يستعملها ما يزيد عن (4000) شخص، أي بمعدل تواليت واحد لكل (160) إنسان على الأقل، مما يضطر الكثير منهم للوقوف في طوابير، أو للذهاب إلى القفار المجاورة لقضاء حاجتهم و يفتقد المخيم إلى الحمامات، ويضطر اللاجئون إلى الاغتسال داخل الخيم. نصف عدد النازحين فقط يحصل على طاقة كهربائية وعلى مياه الاغتسال في الوقت الحاضر بسبب الازدياد المستمر في الأعداد».
وطالب تقرير بالتحقق من الحالات غيرالانسانية في حال ثبوتها «يذكر بعض سكان المخيم أن التبرعات أو المعونات النقدية التي تصل إلى المخيم لا توزع بشكل عادل إذ يحصل عليها من يستطيع التزاحم وله صلة بإدارة المخيم، أو يتم الاستيلاء على جزء منها لصالح جهات خارجية. وأفاد البعض أنه لم يحصل على إعانة مالية منذ (40) يوماً»،واضاف «ساكنو المخيم يحصلون على مواد غذائية جافة (الرز والطحين والزيت وغيره) بكميات كافية من إدارة المخيم، غير إنهم لا يستطيعون الاستفادة منها بالشكل المطلوب بسبب عدم توافر أدوات الطهي ومواقد الطبخ والوقود».

نزوح المسيحيين
وتفتيت المجتمع
لاأحد يستطيع ان يبرأ نفسه من العار الذي لحق وسيلحق بنا جميعا، ونحن نتفرج على مشهد العوائل المسيحية وهي تغادر أرضها وتأريخها وذاكرتها من نينوى التي يضفي الوجود المسيحي عليها هوية من نمط خاص ..
اليوم نجلل بالعار ، ليس على المستوى الفردي، بل العملية السياسية برمتها ، والتغيير برمته، والانتخابات برمتها، والاهداف والشعارات والتساومات والتوافقات والمحاصصة وتبويس اللحي وتوزيع المناصب ، كلّها اليوم تداس تحت اقدام المهجرين المسيحيين..
الجهات الحكومية تطالبهم بالتمسك بالارض والدفاع عنها ، في موقف كوميدي اسود ، ذلك ان قوات مجحفلة ومدججة تركت الارض والناس والمعدات ، فيما على حاملي صليب السلام ان يقوموا بالمهمة نفسها !1
لماذا المسيحيين فقط؟
سيسأل احد الخبثاء أو السذج ، لماذا المسيحيين وليس كل النازحين الذين تجاوزوا المليون مصيبة عراقية؟
بلا فذلكات وشعارات فارغة ، لان تهجير المسيحيين بهذه الطريقة العلنية، وسط الصمت والتنكر والمشاركة والتفرج ، ليس الا اعلانا صريحا عن «قصة موت معلن» لستة آلاف سنة طالما تغنينا بها ولها ..
قصة ستجللنا اليوم وغدا بعار عجزنا عن الحفاظ على بلدنا ، ليس فيدراليا ولا مؤقلما ولا اتحاديا ، بل «وطنا» متشظيا .. مراق الدماء والدموع والمآسي وذاهب الى التقزيم والمساخر..
تهجير المسيحيين ليس دقا لناقوس الخطر،انه الخطر نفسه ، والنار بالسنتها، والاقسى من التقسيم الذي بشرنا يبشرنا به، اولاد العم سام واولاد العمومة وقادتنا الكرام !!
الى حملة لواء تهجير المسيحيين ، يقول الحديث النبوي ” ألأنبياء إخوة، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد “. والقرآن الكريم ينص ” إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخِر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربّهم، ولا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون” (سورة البقرة/61)، كما نص ” ولو شاء ربّك لجعل الناسَ أمّة واحدة ” (سورة هود/118)، وأيضا ” لا إكراهَ في الدين” (سورة البقرة/ 256) ، وجاء في (سورة العنكبوت/45).” ….وقولوا آمنّا بالذي اُنزِل إلينا وإليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ….” .
لاحظوا ردود فعلنا على فعل العار الذي يلاحقنا ، وستكتشفون كم نستحق من هذا العار، وكم نحن جديرون به وجدير بنا ..مازلنا نتحدث عن رئيس كردي ورئيس وزراء شيعي ورئيس مجلس نواب سني ، ما زلنا غارقين بالاغلبية والاقلية ونظام الزوجي والفردي الذي لايختلف عن مستعصيات فك الزحام على المناصب ، مازلنا نتشاتم ونسقط بعضنا بعضا ونعقد الصفقات الملوثة بالدم وفقدان الاحساس بالمسؤولية مطلقا، فيما ينداح التاريخ من بين اصابع الوطن ليرحل ويتهجر الى المجهول..!!
نعم ايها السادة المتصارعون على كراسي الفضائح .. المسيحيون هم التأريخ الذي لاتفقهون اهميته للعراق ، لانكم جهلة القراءة والالوان، وليس لكم لونا ولا طعما ولا رائحة ، وانتم تتفرجون من الفضائيات على صورة الوطن وهو يتشظى .. والناس وهي تنشطر، ثم تظهرون ببدلاتكم الرسمية واربطة عنقكم الحريرية لتتفكهوا دون خجل وتنظّروا لعملية تنسحق امام صليب المسيح وجمعته الحزينة ، وليس مصادفة ان توزع على العوائل المسيحية انذارات الاخلاء والجزية والموت المحقق يوم جمعة هو من اسوأ جمع العراق بلا منازع !!
المسحيون ليس عددا انهم هوية ورمزا لوجود امة من عدمها ..
لوجود وطن من عدمه …
لاحساسنا بالعار من عدمه ..
رئيس أساقفة الكلدان في العراق والعالم مارلويس رفائيل ساكو الأول عد تهجير المسيحيين من الموصل والاعتداء عليهم تصرفات منحرفة ليست من الإسلام وأمر مسيس، وأكد عدم إمكانية بناء دولة دينية ضيقة في العالم المعاصر، ودعا الى ضرورة إيجاد حل سياسي وتشكيل حكومة قوية، مبينا إن (تهجير المسيحيين من الموصل والاعتداء عليهم تصرفات منحرفة للإسلام، وهذا ليس إسلاما) موضحا أن (العديد من الآيات التي وردت في القرآن تمدح المسيحيين).
وقال الرجل حقيقة ان (الأمور اختلطت كثيرا في البلد، وحتى الدين بدأ يتسييس). واضاف (نحن نحترم الإسلام والمسلمين، ولا توجد حرب مسيحية إسلامية) .
المسيحبون يوجهون اسئلة كبيرة .. اي وطن وشعب تستطيع مجموعة من القتلة وشذاذ الآفاق من داعش الارهابية ومن لف لفها وتواطأ في ركابها، ان تفتته وتجلله بالعار حتى يوم الدين ؟ كيف استطاعوا؟ ومن المسؤول عن كل ذلك ؟ وماهي حقيقية ماجرى وما يجري وما سيجري ؟
اسئلة تحتاج الى اجابة من الجميع وعلى الجميع وعلى الرأس من ذلك قادة العملية السياسية الذين يبشرونا بالوطن الواحد والشعب السعيد ، فيما ارتفعت اعداد النازحين الى مليون ونصف مليون نازح ، والعدد مرشح للتصاعد كما تقول الاحداث الجارية !
حلم ابومحمد كما قال لنا هو «جواز سفر الى بلاد الله الواسعة عسى لن يعتبروننا من البشر»، واضاف وهو ينفث دخان سيكارته الذي اخرجه بكل حرقة من جوف رئتيه «سيفعلون ذلك بالتأكيد»!!
اسئلة تحتاج الى اجابة سريعة .. وكما قال شاعرنا الكبير النواب «لا استثني منكم احدا» !!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة