ترددتُ بكتابة العنوان قليلا، فهل هي الديار المهجورة أم الأوطان المهجورة؟ وما هو الوطن غير الدار أو الديار وأهلها وذكريات الطفولة؟ حتى بالمفهوم الأوروبي والغربي عموما يقول الجنود المكلفون بالمهمات القذرة من قبل حكوماتهم “أنا أريد العودة للبيت” ولا يقول العودة للبلد. ” I WANT TO GO HOME”. وتلك هي الحقيقة الواقعية بأبسط نماذجها البشرية والإنسانية.
يهزمني روحيا رؤية دار مهجورة تركها أهلها تحت وطأة التهجير والتفجير وحروب الطوائف العبثية المجانية. وأكثر ما واجهته على أرض الواقع من أحزان طاغية هي دور ومعابد اليهود والمسيحيين القديمة في منطقة الكرادة داخل الواقعة مباشرة بين نهر دجلة وشارع أبو نواس. ويطلق بعض السكان على هذه المنطقة بالقسم التابع للباب الشرقي منطقة البتاوين. وعلى حد علمي أن منطقة البتاوين تحتل الجانب الخلفي لشارع السعدون الذي يفصل نهر دجلة عن المناطق الأخرى الواقعة بمنطقة الرصافة. لأقول أني تجولت في مناطق الكرادة داخل وعلى مشارف النهر حيث شارع أبو نواس والكورنيش الجميل على ضفاف دجلة، ولأقل أنني رأيت الكثير من البيوت العراقية ذات التصميم العراقي الجميل، المهجورة والخالية من أهلها التي تستحق الرثاء، ولأقل أنني شاهدت كيف تتهدم البيوت عندما يهجرها ساكنيها، ولأقل اني بكيت بحرارة على هذه الأطلال الكبيرة والعظيمة التي تجسد مزاج الشعب العراقي بالجمال والبساطة والفن العريق. لأقل أني بكيت على هذه الديار وعلى أهل هذه الديار، فبلأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا.
لا يوجد في الكون ما يدمي القلب ويؤذي الروح أكثر من رؤية دار جميلة مهجورة تتحول إلى حطام بدون ساكنيها. العراق المتوحش اليوم يطأ قدمه الهمجية ويدوس على مكرمات وخصوصيات هذه الديار بدون وجه حق. ويتملك الساسة الجدد تلك الديار ويعتبرونها أسلابا. وما حلّ ببغداد العظيمة يتجاوزه ما يحل بهؤلاء الناس حتى في قراهم القصية وأريافهم البعيدة بالموصل وسنجار وغيرها من القرى والقصبات العراقية الآمنة على مر العصور. تلك الأقوام التي تصنع العسل والجبن والألبان والأقمشة الحريرية لكساء العرائس والأفراح حتى في الشدائد. ما بال العراقيون من الإنخراط في هذا الطوفان من الجرائم والإبتعاد عن الحياة الكريمة بأبسط تجلياتها؟
التشويه المتعمد لأخلاق المجتمع هو تشويه مؤدلج وقتيا والشعب المغيب يخضع لعمليات تنويم مغناطيسي أيديلوجي ديني متخلف تديره دوائر المخابرات المركزية في عواصم الغرب والدول الخليجية الرجعية الحاقدة على العراق وشعبه وحضارته التاريخية. العراق ينهض من جديد. سوف ينهض العراق بكل تأكيد لأن هذا هو مصيره الوحيد.