حين يصبح الموت مؤكداً والحياة معجزة

عبد السادة جبار

امير كوستاريكا مخرج ومؤلف وموسيقي بوسني وبتعبير أدق هذا ساحر فنان يصنع أفلاماً مثيرة للاهتمام بخلطات سوريالية واقعية كوميدية تثير السخرية والمرارة معاً، ويكاد يكون الأوروبي الوحيد الذي لا يندرج اسمه تحت مدرسة محددة أو تحت تجربة معينة من تلك التجارب الأوروبية، على الرغم من وجود آراء تشير إلى أن ثمة ملامح في بعض أعماله نجد فيها مشتركات مشابهة لأعمال فلليني أو لمحات خاطفة من سخريات بازوليني، غير أن أفلام كوستاريكا لا يمكن أن توحي إلا إلى كوستاريكا حتى بإيقاعها المتسارع المتناقض مع مرارة موضوعاتها، ومن المثير للاهتمام ان تفصيلات تلك الأفلام لا تلاحق بسهولة الا بتكرار مشاهدتها تماماً كالموسيقى السيمفونية بسبب تلك التنوعات الغرائبية والصور التي تحتاج الى إعادة مشاهدة وإعادة تفسير ولكن من دون غموض مبالغ فيه، لكنها تحقق المتعة التصويرية بتلك الانتقالات المفاجئة غير التقليدية، ولا يكفي لمن لم يشاهد تلك العروض أن يقرأ ملخصاً لحكاياتها ليفهم تلك الأفلام، كما لا يكفي أيضاً لمن يشاهدها أن يصدر أحكاماً أو رأياً من خلال مشاهدة واحدة، وتمنيت أن يلحق مع تلك الأفلام سيناريوهاتها مطبوعة للتمتع بكيفية كتابة تفصيلات تلك الأعمال الرائعة، فيلم كوستاريكا «(الحياة معجزة» 2004 واحد من أفلامه المميزة التي تناولت مرحلة الصراع الأهلي في البوسنة، ولكن على طريقته المدهشة المليئة بالفنتازيا والسخرية المريرة.

موضوع الفيلم
يعتمد كوستاريكا على نسغ بسيط لبناء سيناريوهات أفلامه، يمثل الهيكل العظمي للفيلم ثم يبدأ بملء ذلك الهيكل ليكون بدناً متراصاً متنوعاً من حكايات مكملة للنسغ الأصلي، في هذا الفيلم يدفع بالكثير من الشخصيات أمام الكاميرا حتى نكاد لا نميز من هو المهم أو المؤثر ومن هو غير المتحكم بالأحداث، بعد مضي أكثر من 60 دقيقة نكتشف انه قد بدأ يسلط الضوء على الشخصيات التي ستحرك الأحداث باتجاه محدد، إذ تدور العام 1992 في أثناء نشوب الحرب الأهلية في البوسنة، المهندس «لوكا» (الممثل سلافيكو شتيماك) يسعى لتحقيق مشروع لمد سكة حديد تشمل جميع البلاد وهو عمل مدني يسعى لتحقيق وحدة البلاد، زوجته «جادرانكا» (الممثلة فيسنا تاريليك) مغنية أوبرا سابقة مصابة بأمراض نفسية ولم تزل تطمح في العودة إلى أمجادها السابقة، والابن « ميلوش « (الممثل فوك كوستك) يعشق كرة القدم ويطمح للانضمام إلى الفريق الوطني ولكن أحد الشروط هو انهاء خدمة التدريب العسكرية الأساسية، وفي أثناء ذلك تشتعل الحرب الأهلية بين الصرب والمسلمين وتتقطع أوصال البلاد ويتوقف مشروع سكة الحديد، ويساق ميلوش إلى القتال وتهرب الزوجة مع أحد الموسيقيين الذي يعدها بالعودة الى عملها السابق ليبقى لوكا وحيداً يتأمل أنموذج مشروعه المعطل والسكة التي بدأ يأكلها الصدأ، ومع ذلك لم يفقد الأمل، إلا أن أخباراً سيئة ترده من القتال، إذ يتم أسر ابنه ميلوش، في المقابل يقوم أحد أصدقائه بأسر ممرضة مسلمة «صباح» (الممثلة ناتاشا سولاك) ويودعها في بيت لوكا من أجل أن يبادلها بولده ميلوش، لوكا لم يعاملها كأسيرة، بل يظهر لها الود والرحمة وتقدر هي ذلك لتعمل على خدمته كسيدة منزل مخلصة وخدومة، لكن شعوراً خفياً آخر يتبادله الاثنان يقلب تلك العلاقة الإجبارية إلى علاقة أخرى تشد أحدهما إلى الآخر لتتحول إلى حب جارف يهدده فكرة تنفيذ تبادل الأسرى، ومما يزيد المشكلة تعقيداً هو عودة الزوجة جادرانكا نادمة، إذ لم تستقم الأمور لينشب الصراع بين المرأتين، تهرب صباح محاولة الانتحار، إلا أن لوكا يتبعها ليهربا معاً، غير أن صباح تصاب برصاص قناص بقدمها فينقلها الى مستوصف محلي، وهنا يصبح لزاماً على المركز الصحي أن يبادل صباح مع ميلوش بإشراف الأمم المتحدة، وهكذا تجتمع الأسرة مرة أخرى. إلا أن جدراناً من العزلة تنتصب بينهم، الزوجة أكثر جنوناً بعد أن فقدت كل أمل في العودة الى الغناء والزوج معلق القلب بالأسيرة المسلمة، والابن لم يعد لاعباً مرموقاً؛ لأن الحرب صنعت منه مقاتلاً، ومشروع السكة الحديدية أصبح مستحيلاً وهي إشارة إلى تمزق وحدة البلاد، فلم يجد لوكا إلا الانتحار أمام القطار الذي ينقل الأسرى، وهنا حمارة فقدت حبيبها الحمار تقرر الانتحار بالوقوف قبل لوكا بمسافة، لكن القطار الصغير يتوقف تدريجاً قبل أن يصل إلى الحمارة ليلتقي وتنزل منه صباح وتعانق لوكا ويكملان مسيرتهما على ظهر الحمارة التي تجد في تلك الصحبة تعويضاً عن فقدها لحبيبها الحمار.

المعالجة
كاميرا كوستاريكا لا تصور حالات فردية ولا تؤكد بطولة محددة ولا تستقر طويلاً على مشهد ما، أستطيع أن أقول إنها كاميرا لا تتوقف، قطع مستمر ولقطات بانورامية طويلة مفعمة بالحركة تصور كل شيء، الشخصيات الأساسية، الثانوية، المجاميع، الأشياء، الحيوانات، الأماكن، تشرك كل شيء في صميم الحكاية، صراع قطة مع كلب، هجوم صقر على حمائم، حمار يريد أن ينتحر أمام سكة القطار، كلب يطارد سيارة، تلك الانتقالات لم تكن معزولة عن حوارات تقع في صلب الحكاية، نشاهد الحمارة التي تخطط للانتحار بسبب فقدها حبيبها ترافق قصة لوكا وصباح ونراها في كل مكان يوجدان فيه وكأنها المعادل الموضوعي لفكرة الحب المفقود حتى ينتهي الأمر باتفاق الثلاثة على الرفقة، وعلى الرغم من بشاعة الحرب إلا أن كوستاريكا صوّرها كحرب غبية يديرها أغبياء بلا ضمير عابثون لا يتقنون إلا القتل والتخريب. الحب الذي يربط بين المسلمة صباح والصربي لوكا يوحدهما بعيداً عن الحرب وأسبابها ويشدهما لبعض بأكثر قوة من تلك العلاقة العائلية الهزيلة القائمة في منزل مخرب، كوستاريكا يفرغ السيناريو الذي أسهم في كتابته ووضع الموسيقى أيضاً في تصوير ممتع على الرغم من انتقالاته المفاجئة، إلا انه يجمع خيوط تلك الحكاية أخيراً في نسيج متماسك لينتصر من خلال فيلمه على مهزلة الضياع والموت بمعجزة الحياة.

فيلم LIFE IS A MIRACLE، تمثيل: سلافكو شتيماك، ناتاشا سولاك، فوك كوستك
سيناريو وموسيقى وإخراج: امير كوستاريكا

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة