المحاصصة للشعراء وراكبي الدرجات

قديماً قيل (الشعر ديوان العرب) وضمن شروط الحياة البدائية السائدة في الجزيرة العربية ومناطق القبائل، احتل الشعراء منزلة كبيرة، إذ كانت القبيلة تقيم الاحتفالات بظهور شاعر لديها، لما يمثله من قوة وسلاح معنوي. ذلك الدور بدأ بالانكماش مع ظهور المدن الحديثة وأشكال التعبير والإبداع والتخصص والتواصل غير المحدود، الذي اتاحته الثورات العلمية والقيمية. في العراق والذي يعده الكثير من المهتمين بالشعر ومنهم الشاعر الكبير محمود درويش؛ موطن الشعر والشعراء، برزت قامات شامخة رافقت توهجه وولادته بعد الحرب العالمية الأولى، مثلوا بصدق تطلعاته المشروعة والتساؤلات التي راودت عقول وضمائر العراقيين آنذاك. لأسباب تأريخية وموضوعية معروفة وصلت تلك المرحلة مع قافلتها المتوهجة من الشعراء الى نهايتها، بعد أن استباح الدولة والمجتمع نوع آخر من “الشعراء” يجيدون إحياء مهن ومواهب أسلاف لهم، كرسوا كل ديباجاتهم لخدمة تطلعاتهم وآفاقهم الضيقة. وفي وصفه لتلك الاوضاع في السبعينيات كتب سعدي يوسف:
طرقت الباب، قالت لي فتاة: غادر الشعراء!
أين؟
الى الوليمة!
كلهم؟
كل الذين عرفتهم!
حقبة “جمهورية الخوف” وولائمها انتهت، لكن حاجة ذلك النوع من الشعراء الى الولائم لم تخفت وحسب بل ازدادت ضراوة، وهذا ما أدركته مجسات “أولي الأمر الجدد” والتي سرعان ما طمأنت تلك الشراهة المستعرة لمدمني الولائم والنياشين وأنواط الشجاعة. في قصيدته التي رثى بها السياب كتب الماغوط:
أيها التعس في حياته وموته/ قبرك البطيء كالسلحفاة/ لن يصل الجنة أبدأ
الجنة للعدائين وراكبي الدراجات.
الشعراء من كل المعادن (التنك والذهب وما بينهما) يعرفون الماغوط الذي رحل من دون أن تتمكن كل اصطبلات العالم وولائمه في جذب اهتمامه إليها، لذلك أصبح إرثه الشعري عنوانا للصدق والجمال والحساسية المرهفة، وفي نهاية المطاف، لم يختلف مصيره كثيراً عمن رثاهم وسبقوه على ذلك الطريق. أما ما نصادفه اليوم من “شعراء” فلا تحتاج الغالبية العظمى منهم الى ما يحفزهم للانضمام للاصطبلات الجديدة، حيث لم يمر وقت طويل حتى تصدر نشطاؤهم واجهة المشهد الجديد، ليظفر الأرشق أو المحظوظ منهم بسنام المفاصل الحيوية لمسؤوليات وتخصصات لا تمت للشعر واهتماماته بصلة، لتصبح “المحاصصة للشعراء وراكبي الدرجات” ولا يحتاج المتابع لمثل هذه الخلطات الغرائبية لجهد كبير كي يتعرف على بركات وجود “الشعراء” على رأس تلك المفاصل الحيوية للدولة في مجال الأمن والدفاع والإعلام والبحوث والدراسات الاستراتيجية وغيرها من الحقول. جميع تلك المواقع والمؤسسات التي استبيحت من قبلهم؛ لم تكتف بالفشل الذي حصدته برفقتهم وحسب بل زادها ضياعاً، ما يتوهمه (الشاعر المسؤول) بوصفه كائن ملهم ومنزه عن النواقص والعيوب. وهم في سلوكهم هذا كمن أضاع المشيتين، فلا هو شاعر امتلك نصاً يوم لا ينفع منصباً أو مخصصات، ولا هو مسؤول حقيقي نهض بما أوكل إليه من مهمات رسمية. والعتب في ذلك لا يمكن ان نلقيه على عاتق هذا النوع من “العدائيين الشعراء” بل على القوى والمصالح والشروط التي سمحت لوباء الحوسمة الشاملة في استباحة كل تفصيلات حياتنا الرسمية منها والشعبية، والتي لن تتوقف من دون ظهور قوة وهمة وإرادة تعيد الأمور الى نصابها الصحيح والمهن الى أصحابها الشرعيين وفقاً للوصية القديمة: قيمة كل امرء ما يحسن..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة