أزمة الصحف !

ثمة عوامل كثيرة أوهنت الصحف المطبوعة لدينا، حتى باتت في وضع حرج، واضطر معظم رموزها للتواري عن الأنظار، وإلغاء أي فكرة لإصدارات جديدة. فكل ما في الساحة الآن هو ما تبقى من إنتاج السنوات الأولى لما بعد التغيير.
وقد حدث أن قذفت موجات الاحتجاب بعدد كبير من الشبان والشابات في أحضان البطالة. كما اختفى للأبد باعة الصحف في الشوارع والتقاطعات ومآرب السيارات! فالصحافة كانت تستوعب نسبة من الأيدي العاملة في البلاد. وإذا ما أضفنا إلى ذلك إغلاق العديد من قنوات البث الفضائي أدركنا كم هو مؤلم هذا المصير.
لا أظن أن سبب الاحتجاب يعود إلى الصحافة الألكترونية وحدها، رغم أنها منافس خطير وقوي. فالأخيرة تعاني من الكساد هي أيضاً، وعدد زوارها متواضع جداً. بل أن قراءها ليسوا أكثر من قراء الصحف المطبوعة لو أحسن توزيعها في المدن والأطراف.
إن أي مقارنة صغيرة مع المطبوعات القديمة تظهر لنا أن الصحف الجديدة لم تعد تعبر عن موقف ما، وتكاد أن تكون نسخاً متشابهة من بعضها. في حين كانت الصحف العراقية والعربية بوجه عام تملك هويات واضحة. وكانت تقود تيارات فكرية معروفة، ليست مستعدة للتنازل عنها تحت أي ظرف كان. أما الآن فقد غلب عليها طابع المجاملة وقبول الرأي الآخر. وأخذت تحرص على إرضاء جميع الأطراف دون استثناء.
بل أن صحفاً رسمية في العراق باتت لساناً ناطقاً للمعارضة، وشرعت بالترويج لاحتجاجات مناوئة للحكومة. ولم تتوقف عن دعم فئات يفترض أنها في واد ومؤسسات الدولة الأمنية في واد آخر!
وطفقت الصحف تتعامل مع الظواهر السياسية بنوع من الحيادية، وتتجنب أي مساس بحزب أو جماعة أو رمز ديني، لأنها تخشى ردات فعل غير محسوبة من الشارع. وتتوجس من الحرق أو القتل أو الإيذاء. والنتيجة الطبيعية هي صحف بلا لون أو طعم أو رائحة. ومصيرها المتوقع والطبيعي هو الاحتجاب!
في العهد الملكي كانت هناك صحف تناصر النظام وتنطق بلسانه، وتتصدى لكل من يقدح فيه. وهناك في ذات الوقت صحف معارضة تنشر فضائحه، وتنتقد إخفاقاته. ومازال البعض يتناقل حتى اليوم شذرات من هذه المواقف المتباينة والشجاعة.
كما كانت هناك صحف أدبية يدعم بعضها تيارات الحداثة، وينعى البعض الآخر عليها متأثرة في ذلك بالمجلات البيروتية الشهيرة، في النصف الثاني من القرن العشرين. أما الآن فلا أحد يتعصب لتيار، أو ينحاز لفكرة. ولا أحد يتبنى نموذجاً، أو يروج لمدرسة. لأن هذا العصر هو عصر التوافق ومداراة الخواطر والنفاق السياسي والضبابية وعدم الوضوح!
مثل هذا الاتجاه يقتل الصحافة، ويحول دون بروز أقلام جديدة فيها. وأظن أن هذا الأمر إذا ما استمر فلن تكون هناك في العراق صحافة مطبوعة على الإطلاق. وقد تختفي مهن كثيرة في هذا الزحام مثلما اختفت مهنة الوراقين بعد ظهور الطباعة قبل بضعة قرون.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة