«كلب الحراسة الحزين»..

رحلة من الشك والمعاناة إلى الضوء في آخر النفق

القسم الأول

آية ياسر

في مغامرتها الروائية الثانية «كلب الحراسة الحزين»، الصادرة مؤخراً عن دار الفارابي للنشر، تتخذ الكاتبة والشاعرة الفلسطينية «صونيا خضر» من هاجس نهاية العالم الذي سيطر على البعض مع اقتراب نهاية القرن العشرين، محوراً لروايتها يحتل قلب النص الفلسفي، مقدمة اتجاهات واحتمالات عدة، وطارحة العديد من التساؤلات حول تناسخ الأرواح وارتباطها.
تقع الرواية في 263 صفحة من القطع المتوسط، وقد قسّمتها الكاتبة إلى خمسة فصول رئيسة تنقسم إلى عناوين فرعية تنتهي بالفصل الأخير. واستخدمت «صونيا خضر» أسلوب الراوي العليم في سرد أحداث الرواية، وجعلته يقوم بدور الشاهد والمحقق والقاضي معاً، في محاولة منها لتحييد سرد الأحداث وعرضها من عدة زوايا وتفسير سلوكيات الشخصيات بطريقة منطقية.
وتتمحور أحداث الرواية حول شخصية نسائية مؤثرة، وهي مصممة الأزياء «رفيف»، ومالكة دار عالمية للأزياء ، والتي بدأت تصعد سلم المجد بسرعة بعد حدوث نقطة تحول كبيرة في حياتها، جعلتها تقرر مواجهة ذاتها وماضيها الأليم الملوث بالنكران والرفض.
وتأخذنا الكاتبة في رحلة ممتعة تستهلها بتلك الأبيات من قصيدة «أنا يوسف يا أبي» للشاعر الفلسطيني الراحل « محمود درويش».. «أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ يَمْدَحُونِي «. لتمهد لأحداث روايتها؛ في إشارة إلى معاناة بطلة الرواية «رفيف» من نبذ عائلتها منذ ولادتها ومعاملتهم لها كالخادمة.
وبدءاً من عنوان الرواية «كلب الحراسة الحزين»، فإن الأجواء الحزينة الممتزجة بالشكوك تُخيم عليها حتى يتراءى لقارئها ضوء في آخر النفق، ليكون العنوان ظلاً للحكاية ودلالة ضمنية لروحها.
وتبدأ أحداث الرواية من مستشفى الولادة التي تلفظ الطفلة حديثة الولادة «رفيف» من وحدة الأطفال الخدع وتطردها خارجها، تماماً كما لفظتها أسرتها ورفضت تسلمها بعد وفاة والدتها أثناء وضعها لها، ويحتار طبيب النساء والتوليد في أمر الطفلة التي لا يقدر على رعايتها ويتساءل عن سر نبذ العائلة لها؟
ويكون القدر حانياً على بطلة الرواية التي تحتضنها «عفاف» شقيقة البواب التي فقدت مولودها حديثاً ولا يزال صدرها ممتلئا بالحليب، فترضعها وتربيها وترافقها طيلة سنوات طفولتها التي قضتها في الطابق الأسفل من بيت أسرتها.
وتجسّد الكاتبة معاناة بطلتها المريرة من مشاعر اليتم والنبذ والحرمان العاطفي طيلة سنوات طفولتها؛ بدءا من الأب الذي لا يشعرها بحنانه على عكس إخوتها ويكتفي بالإنفاق عليها وتعليمها ويترك أمرها للخادمة، ومروراً بالأخت المتعجرفة «ليلى» والأخ الأصغر الذي يتعرض للتوبيخ كلما حاول اللعب معها.
وفي الفصل الفرعي الذي يحمل عنوان «الكاهن صهيب 1997»، تنتزعنا الكاتبة من معاناة «رفيف» وعالمها إلى نبوءة الكاهن الذي يزعم أن 899 يوماً فقط هي المتبقية حتى تحل نهاية العالم، وتخيم على هذا الجزء من الرواية أجواءً تشبه الحلم الممتزج بعوالم الصوفية وخوارقها.
وتطارد نبوءة الكاهن الشقيقة «ليلى» لزمن طويل، وتمثل هاجساً يطاردها ويجردها من قشور عجرفتها وقسوتها الزائفة، فتلجئ إلى أختها «رفيف» لتبوح لها بمخاوفها وتجد ملاذها إلى جوارها، لكن نبوءة الكاهن لم تتحقق رغم أن جماعته قد نفذت انتحارا جماعياً، لم ينجُ منه سوى شاب في العشرين.
وتبدأ «رفيف» بطلة الرواية في الفصل الذي حمل عنواناً فرعياً هو (2000 – 2010 ) مرحلة جديدة من حياتها وصفها الراوية بأنها عنق الزجاجة؛ حيث تتزوج من «منذر» عبر ما يشبه صفقة لإخراجها من قوقعتها ومنحها الحق في استكمال دراساتها العليا وحصولها على درجة الدكتوراه في مادة علم النباتات، مقابل سكوتها وحرمانها من حقوقها وتنازلها عن الأملاك والمبلغ الشهري الذي تحصل عليه من شركات والدها الثري.
لكن نقطة التحول الفارقة في حياة البطلة تحدث في الفصل الذي حمل عنوان «كثير من الحظ» حين أمسكت «رفيف» بزوجها رجل الأعمال وعشيقته المتزوجة ذات الشأن الرفيع متلبسان بجريمة الزنا على فراش الزوجية، فتخضعهما للابتزاز، وتحصل على الطلاق ونصف ثروة الزوج ومصاغ المرأة، مقابل عدم فضح أمرهم. وتخيم أجواء سريالية كابوسية على الفصل المعنون بـ»إغماءة»، ثم تعود الساردة إلى ماض «رفيف» التي نبذها زملاؤها بالمدرسة بسبب وحمة غريبة في وجهها تشبه العنقود، وكرهها الأهل والجيران لاعتقادهم بأنها تجلب النحس، فمنذ أن حملت بها أمها والخسائر الفادحة تحل بالعائلة التي تتراوح بين المرض والخسائر المادية وانتهاءً بوفاة الأم أثناء الولادة.
قد تبدو بطلات «صونيا خضر» في روايتها «كلب الحراسة الحزين»، ضحايا للقهر الذكوري وخاصة تلك المتزوجات منهن، فيواجهن علاقات تعيسة يدفعن وحدهن خلالها الثمن لسعادة الرجل الأناني الذي يجرح مشاعر زوجته، لكن بطلاتها ما يلبثن أن يتحررن من آلامهن وعلاقاتهن البائسة ويحاولن البدء من جديد والبحث عن ذواتهن المفقودة.
وتنشأ صداقة بين بطلة الرواية وامرأة تدعى «جمانة» تعمل بائعة في متجر للثياب، وتساعدها على تعزيز ثقتها بنفسها والاهتمام بمظهرها وأناقتها وإعادة ترتيب حياتها، حتى تصبح «رفيف» مصممة أزياء شهيرة، ومالكة إحدى أهم مجموعات الأزياء في العالم خلال خمس سنوات، وخلال لقاء تليفزيوني تتعرف «رفيف» بالإعلامي «قيس» لتنشأ بينهما صداقة ستكون عنصراً مؤثراً في الأحداث.
وتغوص الكاتبة في أعماق نفسية بطلتها عبر حوارات صادقة تنشأ بينها وبين صديقها «قيس» الذي تلامس كلماته روحها وتزيل طبقات الصدأ عن قلبها الذي لم يعرف الحب يوماً.
وفي الفصل الخامس من الرواية يبدأ الجانب الآخر من الحكاية في التجلي أمام القارئ، حيث الأب «كريم» الغارق في كوابيسه وهواجسه وشكوكه وأحزانه، والذي كان يتسلل لمعانقة «رفيف» الطفلة وتقبيلها أثناء نومها، بينما كان يعاملها بجفاء وقسوة خلال يقظتها.
ويكشف الراوي العليم في ذلك الفصل عن أحداث تعود إلى الماضي البعيد؛ حيث كان للأب «كريم» فيما مضى شقيق توأم يشبه تماماً إلاً من وحمة في الفخذ تشبه العنقود، ويدعى «نصر» لكنه فُقد بالبحر ولم يعثر عليه.
وتبدأ عقدة الرواية حين يراهن «نصر» شقيقه التوأم «كريم» على أن بمقدوره اغواء حبيبته «عطور»، لتتطور الأحداث حتى تجمع الثلاثة علاقة غريبة من نوعها يتبادل خلالها «كريم» وحبيبته المشاعر، لكن شقيقه «نصر» يبادلها القبلات ويستمتع بإغوائها حتى يتحول الأول في هذه العلاقة إلى محض «كلب حراسة حزين» وهو يسمع شائعات سلب أخيه لعذرية معشوقته، لكنه رغم ذلك يقرر الزواج منها وترجح كفته بالنسبة إليها بعد اختفاء «نصر» من حياتها، فتربح الروح تلك الجولة أمام رغبات الجسد. وتتطور الأحداث ليتزوّج «كريم» من محبوبته «عطور»، وينجب منها طفلين، ويشكلون معاً أسرة سعيدة في ظاهرها، إلى أن بدأت أسرار الزوجين المدفونة في الظهور على السطح لتثور عواصف الشك في روحه.
تكشف الأحداث التي يسردها الراوي عن الشكوك القاتلة التي كانت تراود الزوج والتي وصلت إلى ذروتها حين حملت «عطور» في الطفلة «رفيف»، وهواجسه التي تتهم زوجته بالخيانة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة