مرثية الكتاب

كنا نقتني الكتاب ونتداوله ونتبادل الاراء حوله، يوم كانت منازلنا عامرة بالمكتبات، بل ان صالات الاستقبال تبدو موحشة إن كانت خالية من رفوف الكتب، وكان الكثير من المثقفين والمتعلمين يعدون مكتبات منازلهم بمنزلة ديكورات جذابة ومهيبة، وارث عزيز يفخرون بانهم يرثونه لأبنائهم، فيما الابناء يتباهون بها ويشبّون في كنف معارفها.
اقول،كان، حيث انحسرت المكتبات المنزلية مع انحسار اشياء ثقافية كثيرة..اما صديقي ك. فانه قبل شهور كان على موعد سعيد مع دار النشر التي تولت طباعة وتسويق كتابه، وفي ذلك اليوم نفسه اصطدم باول احباط حين ابلغه صاحب مكتبة كبيرة انه لا ينبغي ان ينتظر مبيعا كثيرا لكتابه. بضعة فقط. وفي اول جمعة حمل عشرين نسخة من الكتاب ليوزعها على معارفه في شارع المتنبي، وفي نهاية النهار وجد اكثر من نصف تلك الكتب مطروحة على قنفات المقاهي وزوايا الممرات. وبعد عام ابلغته دار النشر ان نسختين من كتبه بيعتا فقط ويمكنه ان يستعيد بقية النسخ وبعد عام آخر اضطر ان يوافق زوجته على ان تحرق الكتب المكدسة في المنزل، فانهم سيتحولون الى منزل جديد لا يتسع لكراتين الكتب التي علاها الغبار. كان ذلك الكتاب قد انضم الى اطنان واطنان من الكتب التي التهمتها النيران عبر التاريخ، وكان صديقي قد انضم الى طائفة الادباء الذين احرقوا كتبهم بايديهم.
لقد اضطر ابو حيان التوحيدي الى احراق كتبه، في ايام قال عنها «انها نحسة» وجاء في كتابه «المقابسات» شكوى الحال من تأليف الكتب بقوله: «الى متى الكسيرة اليابسة والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد، والله بُح الحلق وتغيُر الخلق» ثم اورد انه احرق كتبه بيده قائلا «ما ظننت بأن الدنيا ونكدها تبلغ من انسان ما تبلغ مني».
كما اقدم معلم الفراهيدي «ابو العلاء» الاديب البصري الشهير على طمر كتبه في باطن الارض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعاً، في ساعة يأس «بلا جدوى العلم في زحزحة الجهل» فيما القى داود الطائي الملقب بتاج الامة بكتبه الى امواج البحر مخاطباً اياها :»لا فائدة ترتجى.. فقد اعشى بصر القلب بصر العين».
اما «سفيان الثوري» الذي هجا الاستبداد الاموي وحاصره المستبدون فقد اكتفى بتقطيع اوصال ما يزيد على الف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحاً عاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: «ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم اكتب حرفا».
قلت لصديقي ك. بعد ان نقل لي خبر القاء كتبه الى السنة النار في فوهة التنور، يجب علينا ان نتأمل جيداً ظاهرة عزوف الناس عن اقتناء الكتب، فان العيب ليس في ما تحمله الكتب من معارف بل في بيئة تاريخية جديدة القت بالكتاب الى خارج الاهتمامات.. وقامت بذبحه بدم بارد.
*********
بريخت:
«لاضير من التردد اذا تلاه إقدام».
عبدالمنعم الأعسم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة