مهند عبد الحميد*
فتحت صناديق الاقتراع «لانتخاب» الرئيس، بينما تنهمر القذائف وتنفجر البراميل ويتواصل نزف الدماء ويسقط الضحايا الذين تجاوز عددهم 160 ألف قتيل وضعفهم من الجرحى، بينما يتشرد أكثر من 8 ملايين مواطن ومواطنة داخل سورية وخارجها تفتح صناديق الاقتراع، في حين لا يجد عشرات آلاف التلاميذ والطلبة مدارس وأجواء آمنة لمتابعة تحصيلهم العلمي تفتح صناديق الاقتراع، بينما يحتجز اكثر من 200 ألف مواطن ومواطنة في معسكرات الاعتقال والتعذيب تفتح صناديق الاقتراع.
بينما ينقسم الشعب السوري ولما يتفق بعد على استعادة وحدته على أسس وطنية وديمقراطية تفتح صناديق الاقتراع.
لنفترض أن النظام حسم الصراع بشكل نهائي وهزم المعارضين على اختلاف الوانهم مرة واحدة، فإنه يحتاج الى مرحلة انتقالية لتجاوز الآثار الرهيبة للحرب ولتهيئة المواطنين للدخول في مرحلة جديدة.
خلافاً لذلك هرول النظام وحلفاؤه إلى الانتخابات لتمديد حكم الرئيس الذي مضى عليه في الحكم 14 عاما ليضيف لها 7 أعوام أخرى تحت عنوان اكتساب الشرعية عبر صناديق الاقتراع وكأن شيئا لم يكن.
لكنها «ديمقراطية» بالقتل والإرغام والتشريد قل صنوها في تاريخ الشعوب المعاصرة، وبرغم ذلك فإنها «ديمقراطية» مقبولة لدى فئات متزايدة من النخب التي احتفت بها وبجلتها لأنها تعرض في مواجهة الغرب وإسرائيل والرجعية والظلامية التكفيرية.
انتخابات الرئاسة في سورية أحدثت شروخاً بين القوى والاتجاهات والفئات الشعبية السورية والعربية، الاتجاه الجدير بالتوقف عند مواقفه، هو الاتجاه الذي يجيز الاستبداد وقمع الشعوب وقهرها إذا تبنى النظام المستبد سياسات ضد الغرب وإسرائيل ووكلائهما المحليين.
وكأن مناهضة الحلف غير المقدس شكل بلا مضمون تحرري.
هذا الاتجاه يقوم الآن بعد 47 عاماً بشطب اهم دروس هزيمة حزيران 67 الذي قال وقتئذ: إن سبب الهزيمة المخزية هو القمع والاستبداد وعدم إشراك الشعوب في الدفاع عن الاوطان وتقرير مصيرها بدءا بحرية التعبير والتنظيم والاعتراض والمساءلة.
وبشطب درس آخر يقول: لم يعد مقبولا استعمال الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي ورفع راية القضية الفلسطينية للتغطية على ممارسة الاستبداد وإعلان الاحكام العرفية التي تسمح للأنظمة بسحق أية معارضة.
كم هو مثبط للهمم وللحلم تراجع النخب السياسية عن تلك الدروس بإعلان الولاء للنظام وعدم المس ببنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.
بل بإذابة الاستبداد في الوعي الفردي والجمعي الذي يحول دون الاضطلاع بمهمة بناء نظام اجتماعي سياسي يعزز الدولة ويمارس الإصلاح الدائم لها ويستأصل عناصر الطغيان والاستبداد بما يتوافق مع شروط تطور المجتمع.
ماذا تقول النخب السياسية والثقافية المتحمسة للنظام السوري في تركيبته وفي التحولات التي قادها بمحض إرادته قبل اشتعال الحريق وتداعياته كالتدخل الخارجي.
تقول الارقام إن 70% من الاقتصاد السوري يمتلكه القطاع الخاص اخذاً بشروط البنك الدولي، و30% من هذه النسبة تمتلكها العائلة الحاكمة (الأسد ومخلوف وشركة الشام القابضة التي تضم 100 رجل اعمال).
وقد أدت الخصخصة إلى تراجع الصناعة بمستوى كبير وانهيار الزراعة وتشرد مليون مزارع في منطقة الجزيرة، في حين تراوحت نسبة البطالة بين 30 – 33% وقد أعيد تمركز الاقتصاد في ما هو ريعي (خدمات سياحة وعقارات واستيراد).
وبلغ الحد الادنى للاجور 11 الف ليرة سورية اي ما يعادل 220 دولاراً في الشهر وهذا الحد يلبي ثلث الاحتياج الضروري للعيش في سورية. ووفقاً لذلك فإن أغلبية الشعب تعيش في حالة فقر مقابل أقلية تحتكر الثروة.
ماذا سيفعل السواد الاعظم بمواقف الممانعة السياسية المترافقة مع تبعية اقتصادية؟ هل يقبلون الاستغلال والنهب والقمع الذي يمارسه النظام مقابل خطاب ممانع وتأييد المقاومة اللبنانية في مرحلة احتلال جنوب لبنان.
علما بأن الاحتلال الاسرائيلي انتهى وكان من المفترض ان تنتقل المقاومة الى مهمات الانتقال من نظام طائفي جشع الى نظام وطني ديمقراطي لكن تلك المقاومة كرست الطائفية وتحولت الى مهمات اقليمية لأنها مقاومة طائفية بالأساس، واستمرت في رفع شعار مقاومة اسرائيل والتثبيت على فترة الاحتلال السابقة والاستعداد لصد عدوان اسرائيلي محتمل منذ 8 أعوام وهو ما يوحي بأن حزب الله تحول الى نظام ممانعة (لا حرب ولا سلم) وهذا مطلب إسرائيلي كما تقول وثائق خبراء هرتسليا.
شعب يجوع ويعاني ويقمع وعليه الاذعان الى ما لا نهاية لان نظامه المستبد ممانع سياسياً وتابع اقتصادياً ويدعم مقاومة لا تقاوم بل تنتظر صد عدوان غير منظور؟ لم يقبل الشعب السوري البقاء ضمن هذه المعادلة المدمرة لحياته وانفجرت ثورته السلمية بأهداف مشروعة وقابلة للتحقيق بالمعنى الافتراضي.
لكنها تعرضت لشتى انواع التدخل والتآمر بهدف إجهاضها وقطع الطريق على احتمال نجاحها وكانت الحلقة الاخيرة انتخابات الرئاسة التي جاءت بصورة بيعة منظمة.
من هم الرابحون ومن هم الخاسرون في هذه المرحلة من الصراع التي جاءت امتداداً لثلاث سنوات من الحرب الاهلية الطاحنة والمدمرة.
الخاسر الاول هو الشعب السوري والجزء الحي والمستقل من المعارضة الثورية والديمقراطية. خسر الشعب الجولة الاخيرة بفعل، أولا : تخاذل المعارضة المستأنسة التي عولت على التدخل الخارجي لحسم الصراع، وتماهت مع القوى الاصولية وفصائل الاسلام السياسي، ودول البترو دولار التي رعت ودعمت ثورة مضادة بالمفهوم الاجتماعي، وورطت الثورة في عمل عسكري منعزل عن النضال الديمقراطي وتعاملت مع العسكرة والحسم العسكري كبديل لدور الشعب في الثورة، والاهم ان المعارضة لم تقدم نواة نظام بديل له اجندة وطنية واجتماعية واقتصادية، بل قدمت أنموذجاً يمزج الدولة الدينية باقتصاد ليبرالي تابع.
لقد سرقت المعارضة الثورة وتمثيل الشعب المناهض للنظام ووضعتهما بتصرف الاجندات الخارجية واصبحت مقيدة بها.
وبفعل ثانياً: انحياز غالبية النخب السياسية والثقافية العربية للنظام او سكوت البعض على جرائمه وانتهاكاته الفادحة. وبفعل، ثالثاً: ارتهان المنظمات العالمية المعنية بحقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها لمواقف النظام الدولي الذي صمت على ابشع الجرائم واكتفى بمواقف لفظية شكلت غطاء لاستمرارها ومفاقمتها.
وبفعل رابعاً: الموقف الأميركي والأوروبي الذي جمع بين تأييد المعارضة المستأنسة – أسهم في عزلها وحرقها سياسيا – وقبول بقاء النظام المغلف بمعارضته والتشهير به – أسهم في حشد التأييد للنظام- .
لا شك ربح النظام هذه الجولة وربح معه حلفاؤه الذين دافعوا عنه بقوة، لكن الربح الملطخ بدماء الشعب ليس ربحاً ولن يدوم بعد وضع النقاط على الحروف.
*ينشر بالاتفاق مع صحيفة الايام الفلسطينية