محكمة الشعر والتجول بين الفراغات.. في «برد الحكايات»لـ»راوية الشاعر»

طالب زعيان

كل الاعترافات ممكن أن تأخذ بها، إلا اعترافات الشعراء، ربما تكون صادقة أو غير صادقة أو جنونية، فيها شيء من الثقة، واللذة للنفس، بدأت راوية الشاعر، وكأنها في محكمة لا مجاملة فيها، لا تعرف قضاتها، فكان عليها، أن تكون صلبة ناطقة، ولذلك مما دفعها إلى أسلوب النفي، وهو طريقة الإنكار، باستخدام إحدى أدواته، الفعل (ليس) التي تدخل على الجمل الاسمية، وتكون عاملة دائما، ترفع الأول وتنصب الثاني، كان (اسم ليس) في هذا النص ثابت، وهو الضمير (التاء) الذي يعود الى المتحدث في فعل (لستُ) كررت النفي بالفعل (لست)، في المقطع الأول مرتين، عكس المقاطع الأخرى، مرة واحدة، وذلك يعود، ربما لسببين أولا: دائما البدايات تكون فيها شيء من القوة، وثانيا ما اقتضته الحال، بنفي (مؤهلة, صريحة) كلاهما صفتان متلازمتان التأهيل والصراحة، عند الشاعر لا يمكن فصلهما، أن الشاعرة تشكو من صداع يربكها دائما، في كل شيء، مما جعلها تتحرك هنا وهناك، من شدته بين الفراغات، وحتى خطها أصبح نحيلا غير جيد:
(لست مؤهلة للشعر
لست صريحة بما يكفي
حتى ألقن عقلي عافية الصداع
التجول بين الفراغات مرهق لدرجة التعري
وشكلي نحيل جدا على السطر)
الاعتراف الآخر، بأنها غير مترفة، وربما هي مترفة لا نعلم، لكنها لا تريد أن تخدع الآخرين، كما يفعل الكاذبون اليوم(أوزع , أملأ)، بأن تعطي لهم أحلاما مزيفة كاذبة، يرافقها الانتظار (أملأ الانتظار) صورة مجازية جميلة، وضعت للانتظار جيوبا، ثم تقول على الرغم من ذلك(المفاجئ والمألوف غريمان)، لكني قوية أمارس طقس الانفلات على حبلهما، ولفظة حبل هنا جاءت مجازا ولا أقع إلا وأنا ثملة:
(لست مترفة بما يكفي
حتى أوزع الأكاذيب على الحالمين
حتى أملأ جيوب الانتظار بأفق رحب
المفاجئ والمألوف .. غريمان
ارقص على حبلهما بطريقة مولوية
أمارس معهما طقس الانفلات
ولا أقع .. إلا وأنا ثملة بالتوقع
أقشر عني هاجس اليقين
والبس الاحتمال لبا)
ربما تكون ضائعة، وربما لا، لكنها ليست طيعة مطيعة، لترسم كآبة الحروب وقسوتها، فهيبتها مثل المدن المستباحة، ترفض ذلك يدل على عنفوانها:
(لست ضائعة بما يكفي
حتى ارسم كآبة الحروب على خارطة المعدومين
لست طيعة .. مطيعة
وأنا نسخة من افتراض لون
وهيبة مدن مستباحة)
تخبرنا الشاعرة، بكل بساطة عن حياتها، بالجمل الفعلية، بالفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال، أي: الحدوث والتجدد، بلا توقف، وأيضا نلاحظ بين هذه الأفعال تقابل، لكن كل منهما، له معنى مغاير (أتقافز، أحارب)، (اشحن، أتصفح) أتقافز يدل على الفرح، يقابله أحارب يدل على القوة،
اشحن فيه شيء من الجهد، يقابله أتصفح ليس فيه شيء من الجهد:
(أنا بكل بساطة أتقافز على سريري
كلما داهمتني فكرة
أحارب هاتفي بالنقر على البيانات
احشرها جميعا في كيس الخاطر
المسه بطريقة بربرية
أقده من جميع الكتروناته
اشحن دمي بالتلويح
أتصفح مقدار الحاجة .. التي لا تهدأ
وأنا اختلي به بما يمنحني من مخدر
من تيه لا ينفد)
في النهاية تصف لنا الشاعرة، علاقتها بالشعر مخيفة، وتختصرها بعبارة جميلة (كلانا لا يفهم الآخر) وهذا هو سر مصاحبتهما، كل طرف يريد أن يعرف أكثر عن الطرف الآخر، لكن بدون جدوى وسيبقون هكذا، ليست هناك لهما نقطة نهاية، ويعيشان الندم على علاقتهما مع بعضهما، لكن ليس الندم الذي نعنيه نحن، الندم عندهم عشق، هو يمسك بالوقت، وهي تهرول بين المواعيد، والشيء الجميل فيهما، يسخنان سوية فتلهب الكلمات:
(علاقتي بالشعر مريبة
كلانا لا يفهم الآخر
كلانا صبوران على الندم
هو يمسكني من ياقة الوقت
وأنا اركض صوب المواعيد بلا هدنة
صراع بين محسوس وملموس
كلانا نسخن جدا .. كلما ضربنا معنى خائب
كلما سكت الليل عن النحيب
كلما هدأ مد الغواية).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة