أسامة غالي: الكتابة في ما يشبه الشعر هي كوة بالنسبة لي أرى من خلالها العالم وأرتبط به

القسم الثاني

حاوره: سلام مكي

من هنا، اخترت طريقاً صعباً، بعيداً عن كل هذه المواقف الرخيصة والرداءة الشائعة، أقف على مسافة منهما، لأقول وأفعل ما أقتنع به بكامل الحرية، وبشيء من الوعي، غير مكترث لردود الأفعال، متمثلاً بقولة بودلير (البطل الحقيقي يلهو وحيداً).
ــ شجاعة الكلمة التي تمتلكها، وقول ما تؤمن بصحته، بصرف النظر عن مدى تقبل الآخرين لها: هل خلقت لك مشاكل وعداوة داخل الوسط الثقافي؟
الشجاعة ليست ميزة إضافية، أتذكر قولة لافلاطون في توصيفه الاخلاقي للفضائل، الفضائل تقوم على العدالة و الشجاعة والعفة، هكذا يتحرر الإنسان السوي من قيود الواقع، فشجاعة الكلمة أو الموقف هما فعلان طبيعيان، لكن ما يمنحهما الاختلاف، والغرائبية، هو الواقع المرير نفسه، أ لا ترى أن في ظرف الحرية تبدو الشجاعة فعلاً طبيعياً، نحن، إذاً، بحاجة إلى الحرية لنكون أسوياء بلا توصيفات أخرى، وربما تتذكر قولة لوركا في هذا الصدد: ( ما الإنسان دون حرية يا ماريانا..)؟!
لست مؤمناً بصحة ما أقول، بقدر الايمان بحرية ما أقول، ليكن ما أقوله خطأ، ما المانع من هذا؟!، المهم أن أقول ما أقتنع به، وإن يكون هذا القول مقبولاً في ضوء اشتراطات الوعي، فحين تحدثت عن قصيدة النثر مثالاً، لم أتعرض لأحد، أو لكاتب ما، كنت أتحدث عن نشأة هذا الشكل الكتابي، وعن صلته بالشعر، وعن نماذجه الأولى، وكنت أتحدث في سياق نقدي يقوم على المساءلة، مع ذكر شواهد ومسوغات، وكان المعنيون على استجابة كبيرة، سواء أكانوا بالضد مما قلته، أم مع ما ذهبت إليه، لا فرق عندي، لكن الكارثة حين يتعرض لآرائك بالسخرية متابع لا يفرق بين مجلة شعر البيروتية ومجلة شعر 69، أو كاتب لا يفرق بين الشعر والشعرية، أو شاعرة تكتب النثر وتوهمت أن ما أقوله المساس بلقب الشاعرة العظيم فترد بمنطق العاجز بإنشائيات لا يتفوه بها أشد المتحمسين لقصيدة النثر!
أو عن الجواهري مثلاً، كتبت عن موقفه الشعري، ولم أتحدث عن شعره، ومن الواضح ثمة فرق بين الموقف الشعري والشعر، غير أن المتحمسين اختلفوا معي فيما هو متفق عليه، في شعر الجواهري، وتحول النقاش إلى افراط في التقديس لا يرتضيه الجواهري نفسه..
وأخيراً ما نشرت عنه، وهو موضوعة المثقف الروزخون، وتحولاته من مداح الديكتاتور وحروبه إلى مداح ما بعد الديكتاتور وجنونهم الديمقراطي، نشرت بوثائق ما يجرح شهاداتهم النضالية، وكنت عازماً على نشر دراسة كاملة بالوثائق عن هذه الموضوعة وتمثلاتها لكن يبدو أننا ما زلنا نمتهن ثقافة النسيان والتسامح بالمقلوب، وكأنّ مشغل الذاكرة الثقافية العراقية مشمول بقولة (الإسلام يجب ما قبله)!
كلّ هذه المساءلات، وأشياء أخرى، سببت لي بشكل كبير خصومات لم أكن أرغب بها، ولست ممن يسعى اليها، لكن كما ذكرت لك، وعي الخاص، وحريتي الشخصية، تدفع بي دوماً إلى قول قناعاتي بعيداً عن التفكير بالخسائر، وليكن!، بالنهاية ما ينفع الوعي يمكث في الذاكرة..
ــ مجلة» الثقافة العراقية» نالت استحسان الجميع، وكتبت فيها أسماء مهمة في الثقافة العراقية. خرجت الى النور بجهود فردية، جهود توازي جهد مؤسسات كاملة. حدثني عن فكرة المجلة، وعن الطريق الوعر الذي سلكته لاستمرار المجلة، وظروف توقفها.

المجلة حلم شخصي
عشت رفقة مجلات عربية وعراقية، تشبعت بغبارها، واسئلتها، تعرفت من خلالها على كتّاب مهمين وكتابات وترجمات هائلة، كانت بذرة الوعي الأولى، ما زلت احتفظ بأرشيف كبير منها، أعود إليه بين فترة وأخرى لتحفيز الذاكرة، والانشغال بمتعة التذكر، وكان كلّ هذا وراء حلم مجلة الثقافة العراقية، ففي ما طالعته من مجلات، ولاسيما العراقية، كان لكل مجلة توجهات ايديولوجية، وكانت الكتابات والمشاركات تأتي بهذا المسعى، وحين انبجست فكرة انشاء مجلة كنت أحلم بالخروج من مأزق الايديولوجيا، من توجهاتها الضيقة، من ممارساتها الاقصائية، فأول ما تبادر إلى مخيلتي تسمية المجلة بـ (الثقافة العراقية)، أن يكون هذا الاسم دالاً على توجهاتها، لا سيما كان الجو الثقافي العراقي، وما زال طبعاً، يجتر الايديولوجيات بل اضاف عليها مسميات جديدة، مع تغيب الهوية الثقافية العراقية، وتغيب المثقفين العراقيين الحقيقيين تحت ذرائع شتى، فمن هنا تبلور الحلم بمجلة جديدة تعنى بالثقافة العراقية بعيداً عن الايديولوجيا وصراعاتها، واستعنت بكتّاب عراقيين نبلاء في الهيأة الاستشارية وفي مواد النشر، وكانت الروائية العراقية لطفية الدليمي أول من بادر، وقدمت لي خطاطة أولى حول ما يتصل بشكل المجلة وتبويبها، ثم استمر الكتّاب بدعمها معنوياً، لا أنسى الدكتور حاتم الصكر الذي كان يتصل بي بتواصل لانجاح هذه المجلة وتقديم الملاحظات الهامة، وكذلك الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق و الشاعرة والمترجمة مي مظفر التي وقفت معي بشكل كبير واعدت ملفاً كاملاً عن الفنان الراحل رافع الناصري، وكذلك الصديق الشاعر حسين محمد عجيل الذي بادر إلى دعوة الكتّاب للمساهمة فيها والكتابة عنها، وكذلك الدكتور قحطان جاسم الذي كتب عنها في الصحف، والدكتور سعيد عدنان الذي بارك صدورها وواصل النشر فيها، والدكتور محمد عبد الرضا شياع الذي وسع صلتها بكتّاب عرب، والدكتور حمزة عليوي الذي سعى لاعداد ملف الصحافة الأدبية وكان يراقب مواد المجلة عن كثب، لا أريد أن أنسى كاتباً أو مترجماً أو فناناً، فكل من ساهم بالمجلة أو وقف معها كان له دور كبير بفاعليتها ومقبوليتها ورصانتها، ويعود الفضل لهم أولاً، فما أنا سوى (ناقل التمر إلى هجر).
صدرت المجلة بجهود شخصية، وبامكانيات بسيطة، كنت أعد المواد وأصممها بنفسي، وبسبب المجلة عاودت مزاولة التصميم، وكان معي الصديقان علي محسن وأحمد معن، يشاركاني حرارة الهم ودفء التعب، لم أجد عائقاً أمام صدورها سوى الطباعة، وأمام تعبها سوى الطعن من كتّاب ايديولوجين، وكتّاب اعتذرت المجلة عن نشر رداءة ما يكتبون.
طبع العدد الأول بألف نسخة، كان ثمن الطباعة من أخي الكبير الدكتور أحمد غالي وبمساهمة مني ومن علي محسن، والمطبعة بوساطة أحمد معن، وكان الدكتور أحمد غالي يوفر لي أموال الأعداد المتبقية، فلم نسترد المال بعد طباعتها، اذ تُوزع المجلة مجاناً، فلا أحد يشتري مجلة بعد!، ومع كل هذا واصلنا صدورها، حتى أتذكر، وهذه للذاكرة فقط، بعتُ ذهب (زوجتي) لتستمر طباعتها، لم نمد يدنا لمؤسسة أو أي داعم، حتى عُرض علينا دعم فرفضناه، لأنني، شخصياً، مؤمن أن العمل الثقافي شرطه الحرية والاستقلالية، وان العوائق في طريق استمرار أي عمل لا تعني القبول بدعم جهة وأخرى، لتتوقف المجلة، لا مشكلة في هذا، المهم أن تبقى باعدادها القليلة ضوءاً نقياً في ذاكرة الثقافة.
توقفت المجلة لهذا السبب، فما عاد بالمستطاع تحمل اعباء الطباعة، فأنا على سفر ودراسة، وكل هذا يحتاج إلى مال لست بقادر عليه، غير أنني أفكر هنا في تركيا بايجاد طريقة غير مكلفة للطباعة، عسى أن أجد وتعود المجلة الحلم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة