سرد التغريبة بآلامها وجمالياتها

«مديح لنساء العائلة»:

راسم المدهون

سردية كبرى، كثيفة ومثقلة باحتمالاتها المفتوحة تحملها للقارئ رواية الكاتب الفلسطيني محمود شقير الجديدة «مديح لنساء العائلة» التي تحتدم بالتاريخ ويحتدم بها فيما التاريخ ذاته استرجاع بوجهين لا ينفصلان، وجه الوطن المسلوب ووجه أهله في تغريبتهم غير المسبوقة حيث تتناسل الأحداث المأساوية في موازاة تناسل البشر ذاتهم ليرثوا التراجيديا والانتماء معا.
«مديح لنساء العائلة» هي أيضا – وربما أساسا – رواية الفلسطينيات على مر أجيال تعاقبت على حمل ميراث القضية الوطنية الباهظ على كواهلهن ذاتها التي تنوء بحمل تعبهن التاريخي في العائلة والحب والزواج. محمود شقير يختار تلك البيئة الاجتماعية المرهقة على مدى الدهر بكدها من أجل تأمين عيشها والتي تنهض بالجدية ذاتها في اجتراح القدرة على البقاء رغم الحروب والنكبات والقمع الذي واجهه الفلسطينيون طيلة قرن ويزيد. تلك البيئة التي ظلت بعيدة – عموما- عن الرواية الفلسطينية ولم تحضر في سردياتها إلا نادرا وفي صورة ثانوية عابرة.
رهان يذهب الى الروح
«تذهب الرواية نحو استقصاء حضور النكبة الفلسطينية في المآلات الجمعية والفردية للفلسطينيين»
في جوهر الرواية حضور حيوي للأسرة والعائلة كمعادل موضوعي للمجتمع بأسره: المقاربة هنا تتعلق بتعددية الآراء والمواقف والتي تنحدر بدورها من مسارات اجتماعية – ثقافية تعكس الوعي الفكري والمصالح الفردية معا. في تنوع كهذا تذهب الرواية نحو استقصاء حضور النكبة الفلسطينية في المآلات الجمعية والفردية للفلسطينيين أو لنقل بدقة أكثر أنها تتجرّأ بفنية عالية وعميقة على قراءة خارطة الوعي بتفاصيله الفردية، بعيدا عن مألوف الأحكام الجمعية وخطوطها العريضة. شقير يحدق في شقوق الألم وما حفرته النكبات المتلاحقة التي تناسلت من النكبة الأولى عام 1948 والتي دمَرت المجتمع الفلسطيني الواحد وضربت العلاقة بالمكان على نحو غير مسبوق. رهان «مديح لنساء العائلة» يذهب الى الروح التي تشكلت من جديد ولكن هذه المرَة في أتون أقانيم اجتماعية ومعرفية مختلفة أبرزها الألم والحنين والحرمان: نساء العائلة يحضرن هنا كنساء «عاديات» تماما، لكنهن يستبدلن عاديتهن القديمة تلك بملامح أخرى تشكلت في حمم القسوة حيث لا يعود الوطن فكرة مغلفة بحنين رومانسي جميل ويصبح تراجيديا معاصرة تستحضر وجع ملايين البشر لتشكل نهر العذاب الإنساني الهادر الذي يحفر مجراه بنفسه ويشق صخورا صلدة.
في المشهد العام للرواية تحضر أحداث وشخصيات واقعية مرَت بزماننا، ولعبت أدوارا متباينة وبدرجات مختلفة، لكن الأهم والأجدر بالانتباه رؤية «تغريبة» الكل الفلسطيني في أماكنهم الكثيرة حيث تتشكَل الرؤى والمواقف والحساسيات المتنوعة وتمنحنا عناوينها ومضامينها. «الحالة» الفلسطينية العامة والشاملة هي في اللحظة ذاتها بانوراما ملايين المرايا التي تزدحم في عمقها رغبات وعذابات وأفكار هي ابنة شرعية للمآلات المختلفة والموزعة بين أماكن الوطن كلها وبين الشتات، العاصف والمترع بالقسوة، ونحن إذ نتابع شخصيات الرواية وأبطالها ننتبه الى جموح حضور الحدث في بناء الشخصية الإنسانية خصوصا النساء.ثمة ولع لا يخفى للكاتب بالتفاصيل والجزئيات الصغيرة أو ما يمكن أن أسميه انتباهات الكاتب التي تقرأ المشاعر بالرهافة ذاتها التي تقرأ فيها الأحداث. هنا أجد من الأهمية الإشارة الى وقوف محمود شقير خارج الأيديولوجيا و»مساطرها» الجاهزة والمعدَة مسبقا واحتكامه الى حيوية حضور الشخصيات ذاتها في صورة واقعية حيث البشر يعبرون في واقعيتهم عن حريتهم الكاملة في العيش كلُ بلغته وأسلوبه وبالتأكيد كلُ بموقعه الاجتماعي والسياسي. تلك في تقديري مسألة بالغة الأهمية، فالحديث عن هدير نهر التغريبة الفلسطينية الكبرى والجامحة لا يعني البقاء في خطاب العمومية والنشيد الواحد كما اعتدنا من روايات فلسطينية عديدة، لكنه يفترض ما فعله محمود شقير وأعني رؤية التنوع والاختلاف، الطبيعي والحيوي، والتي لا تناقض فكرة الشعب الواحد بل هي تمنحها صدق الواقعية. رؤية التناقضات الاجتماعية (النظرة للمرأة، تعدد الزوجات الخ) تمتحن بالضرورة صلابة المجتمع وسوية بنيته وحضوره الكلي في مواجهة المخاطر والنكبات وهي تبدو بعد النكبة وقد تصدعت وظهرت للعيان شروخها في المنافي التي جاورت فلسطين، غير أنها تحطمت تماما في المنافي البعيدة ولم تعد سوى ذكرى وبقايا حنين يقع في مساحة بعيدة. هنا بالذات يبدو الحضور الجمعي واحدا بأوجاعه وألمه وبما يعيشه من متاعب وإن اختلفت رود الأفعال والمواقف وتنوعت. في «مديح لنساء العائلة» انحياز كليُ للحياة: هي حياة يهرع نحوها الجميع ويهبونها شغفا محموما حتى في تلك المواقف الحادة والعاصفة والتي تهدد وجودهم، فنساء الرواية في تعددهن وتنوعهن يجتمعن على انتمائهن لحب الحياة ما استطعن اليها سبيلا، وهن يحملن ككل النساء رغباتهن وغيرتهن ويمتلكن في الوقت ذاته الحرص نفسه على «الجماعة» الواحدة والحنين للمكان الواحد ذاته.
«ميزة هذه الرواية الكبرى والأهم هي ما تضمره وما توحي به، وما تجعله أفقا مفتوحا يزخر بالجمال»
في البنائية الفنية للرواية يقدم محمود شقير شخصيات كثيرة تحضر في المشهد الروائي بصور مختلفة ثم يعود فيجتذب مرة بعد مرة شخصية محددة ويطلقها في فضاء سردي يتجاور مع الحدث العام كما مع الشخصيات الأخرى فيما يشبه موزاييك مجتمع فيه ائتلاف التنافر واجتماع التناقض. حضور كل تلك الشخصيات يأتينا من خلال سرد متصل عنها، وهي صيغة أعتقد أنها خدمت فنيا صيغة «سيرة التغريبة». هنا أيضا تحضر لغة الحوار والتي تأتي دائما أقرب للعامية فتمنح الرواية بريقها الأكثر صدقا وواقعية وأكثر قدرة على توحدنا مع الحدث الروائي ومناخاته العامة. لغة الحوارات هي أيضا «بيئة» إنسانية تصدر من وعي كما من حساسية وتمنح الحوارات وهجا يتجاوز الشكل (على أهميته) إلى عمق الصلة بالمكان ذاته، المكان الذي هو جحيم التراجيديا الوطنية ومسرحها الدامي الذي احترقت فيه الشخصيات والذي هو في المقام الأول والنهائي وطن الفلسطينيين وفردوسهم المفقود الذي يلخص غيابه كل عذاباتهم وآلامهم وتفاصيل تغريبتهم.
نلحظ في السياق «بطريركية» رب الأسرة بكل مفرداتها ونتابع بعد ذلك التحولات الكبرى لهذه الشخصية المحورية وهي تحولات تأتي بطيئة متثاقلة فلا تلغي تلك الشخصية أو تعيد تشكيلها في صورة دراماتيكية انقلابية بل ببطء بالغ نراها خلاله تقدم تنازلات متعاقبة لحقائق الحياة الجديدة وتحدياتها وهي – غالبا – تنازلات مضمرة لا يتم الاعتراف بها علنا وفي صورة صريحة.
متعة السرد والأفق المفتوح
«في «مديح لنساء العائلة» انحياز كليُ للحياة»
الحديث عن رواية محمود شقير «مديح لنساء لعائلة» هو أيضا حديث في السياسة العربية وعنها وعن ما يزيد عن سبعين عاما طويلة ومريرة من الخيبات والهزائم جرفت أحلاما كبرى لم تكن سوى أوهام كشف انهيارها هشاشة الاستقلالات العربية وهشاشة أوهامها وأكاذيبها وارتباطها بالأجنبي، وكان جميلا أن تحضر تلك الأحداث والوقائع السياسية في صورة سلسة تتفاعل إيجابا مع فنية الرواية وجمالياتها ومع جاذبية السرد ومتعته.
هي متعة السرد إذ تحتفل بحضور البشر العاديين، البسطاء والعامة، والذين هم باجتماعهم حضور للمجتمع كله، وهم هنا يلعبون دور البطولة ويقتسمونها مع الحدث ذاته بكل ما فيه من قسوة ومن حب يجتمعان فيحققان دهشة القارئ ومتعته، فالرواية وعي للواقع وإحساس عال بتفاصيله وجزئياته وهي إذ تنتبه لهذا كله تضعنا في صورة مباشرة أمام حيوية جارحة لمشهد فلسطيني مثخن بالجراح والألم والعذاب، ولكنه مفتوح على الأمل والتجدد والحياة، وميزة هذه الرواية الكبرى والأهم هي ما تضمره وما توحي به، وما تجعله أفقا مفتوحا يزخر بالجمال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة