T h e B e e k e e p e r
عبد السادة جبار
المخرج اليوناني الراحل تيودوروس انجيلوبولوس، قال:»أنتسب إلى جيل كان يحلم بأنه قادر على تغيير العالم، مع حلول العام 2000 انتهى ذلك الحلم». قدم انجيلوبولوس في أثناء مسيرته الفنية 13 فيلماً من الصعب نسيانها كان لها تأثير على جمهور السينما العالمية، في الواقع صنع هذا المخرج أسلوباً مميزاً ومختلفاً لا يمكن تجاوزه، وتحتاج أعماله إلى وقت طويل للتأمل والدراسة، إذ تتميز على مستوى الموضوع بارتكازها أحياناً على مادة ميثولوجية وتاريخية، ولكن برغم غموض بعضها، إلا أنها تحقق متعة بصرية كأنها أحلام، فهي تقتضي تركيزاً وتأملاً للفصل بين الواقع والحلم، أفلامه تتجاوز الحدود التقليدية بين قيم الشعوب، وبين التاريخ والأسطورة، والماضي والحاضر، والمصادفة والقدر، والواقعية والسوريالية، والصمت والصوت، والمرئي واللامرئي، وبين ما هو محلي وما هو عالمي، البناء السردي لأفلامه مركب من مادة فكرية، وخيال، ومسرح يتعايش فيه الواقع والخيال، والحقيقة والأسطورة.. ولهذا فهي قد تجاوزت عالم الحكايات في السينما وعدت بمنزلة رحلات بأسلوب بصري شعري تشكل امتداداً لأعمال سلفه هوميروس، وبالرغم من إن انجيلوبولوس يهتم بالتاريخ لكنه ليس مؤرخاً يحقق أفلاماً تاريخية بل هو فنان يتعامل مع التاريخ انطلاقاً من رؤية خاصة ومنظور مختلف اقرب إلى الشعر منه للوثيقة، هو لا يحاول استنباط أو تقديم نتائج أو أحكام نهائية مثل ما يفعله المؤرخون، بل يقوم بتصويره تاركاً للمتفرج الاستنتاج والحكم. يقول كيروساوا: «انجيلوبولوس يراقب الأشياء بهدوء ورصانة من خلال العدسات، إن ثقل رصانته وحِدة نظرته الثابتة هي التي تمنح أفلامه قوتها». فيلم « النحّال The Beekeeper « ينتمي إلى المرحلة الثانية من رحلته السينمائية والتي تضم (الاسكندر الأكبر، رحلة إلى كيثيرا، النحال «، والتي أنتجت في الثمانينيات بين عام 1980 إلى 1984.
سيناريو الفيلم
في هذا الفيلم كانت البداية مع مقطع شعري عن حياة النحل:» إنها العذارى، ترغب أن تكون ملكات.. تقرع أبواب سجنها الشمعي.. تكسره .. لكن الحراس يرممون ماتهدم .. فقط الملكة هي التي تخرج .. ينتظرون رقصة الملكة..» . اللقطة الافتتاحية لمائدة مفروشة تتبعثر فوقها مزهرية ورد بمناسبة سعيدة في باحة بيت قديم، لكنها متروكة بسبب سقوط المطر الربيعي، ثم يقطع إلى احتفال زفاف ابنة النحال « سبيروس « مدرس متقاعد كئيب هو الممثل (مارسيللو ماستروياني )، ولا يبدو إن هناك مباهج في الحفل، إذ نلاحظ تجهماً يعلو الوجوه، الأب والأم والأخ والعروس، وفي الصورة التذكارية كل ينظر الى اتجاه مختلف، في ذلك اليوم الممطر ينفض الحفل الصغير في البيت القديم ليتفرق الجيران الى بيوتهم اليونانية القديمة يحملون المظلات لشدة المطر، تودع العروس عائلتها لكن الأب يشعر بالحزن عند وداع ابنته، يغادر الولد مع أمه، ثم يرحل سبيروس بشاحنته حاملاً صناديق النحل يمارس مهنة آبائه التقليدية بتربيتها. ويبدأ رحلته السنوية مع النحل للحصول على العسل من مناطق متعددة من اليونان إلى أمكنة تتوافر فيها الزهور أو كما يقول هو: «إن مهمته هو مطاردة الزهور..!» النحالون يتناقصون كل سنة.. المهمة صعبة، إلا انه يصر على متابعة هذه المخلوقات.. ينفرد عن عائلته وحيداً لينجز عمله.. تلك الوحدة تكسرها مصادفة غير متوقعة.. يصعد إلى شاحنته ليجد فتاة بجواره- لم نعرف اسمها طوال الفيلم – الممثلة (نادية موروزي )، تطلب منه أن يلقيها في آخر محطة يقف بها، غير إن المحطة الأخيرة لم تكن هي الأخيرة بالنسبة له لترافقه إلى أمكنة أخرى.. مطعم .. فندق.. متنزه، إلا انه يتركها حين يرافق النحل.. حاولت أن تغويه، ونأى بنفسه عن حاجتها. ثم استقدمت شاباً غريباً ليواقعها في الفندق نفسه.. يهرب من المكان.. لكنه لم يتمكن من الهرب منها..على العكس يشعر أكثر بالتقرب منها، وحين يلتقي بابنته في محطة للوقود.. يكاد أن يستقر، غير انه يستجيب لضغط دعوتها تاركاً ابنته. يذهب إلى زوجته محاولاً رأب صدع الفراق، فيصطدم بعدم حميمية اللقاء.. ليعود إلى فتاته.. لم تتغير ملامح وجهه المتجهم برغم ضحكها ورقصها وطفوليتها.. أثارته بغنجها فأراد أن يصب جام وحدته.. حاول اغتصابها إلا أنها قاومته، لكنها لم تتركه بل أحبته أكثر.. إذ رافقته إلى دار سينما مهجورة لأحد أصدقائه، يبلغه بأنه ينوي بيعها كونها لم تعد نافعة – في إشارة إلى مستقبل السينما اليونانية – وهناك على خشبة مسرحها يلتصقان في مشهد حميمي طويل بانسجام متناهٍ أمام الشاشة البيضاء ليتحول المشهد كأنه عرض سينمائي أمام كراسٍ فارغة.. ينتهي المشهد لتغادره إلى اتجاه مجهول. يبقى وحيداً، فيكتشف مأساة وجوده، ويعود إلى صناديق النحل يفتح أغطيتها من دون أن يرتدي واقيات، لتهاجمه العاملات ينبطح على الأرض مستسلماً لتلك اللدغات الجماعية القاتلة.. سبيروس حاول يائساً إعادة الاتصال بالحياة عبر علاقته مع الفتاة، لكنه يصل الى مزيد من العزلة والرغبة في الموت.
المعالجة
على الرغم من أن تيودوروس انجيلوبولوس مختلف عن بعض من شكل تلك الحزمة المضيئة من شعراء السينما بطريقة السرد السينمائي، إلا انه يتوافق معهم بتلك السمات التي تشكل نسغاً واضحاً لهذه المدرسة الرائعة، منها تلك الأجواء المفتوحة عبر اللقطات الواسعة، القطع غير المتسلسل أو التقليدي الذي يصدم المشاهد الاعتيادي، وتصوير الأمكنة التي تغلب عليها الألوان الداكنة عبر الاقتصاد في الحوارات وصياغتها بما يشبه حلقات رابطة، والاهتمام بتعبيرية الممثل المفعمة بالصمت، إذ نرى في هذا الفيلم تلك السمات، ونرى البيوت والطرقات والأشجار الموحشة، وحركة الناس الخالية من الحيوية، والأمكنة المعدة للقاءات خاوية، والمتنزهات، والمطاعم، وصالة السينما، والطرقات، والسماء الملبدة بالغيوم، والأضواء الخافتة، والألوان الكابية، ليس ثمة إشارة إلى مستقبل في الوجوه الشابة، صديق الفتاة يتركها ويهرب لتعيش الضياع وتبحث عن ملجأ أو متعة عابرة، النحل الذي يواجه شحة الزهور والريح الشديدة يصاب بالسبات برغم إقبال الربيع، ولا تحاور بين الشخصيات يبعث على الأمل.. اللغة هنا عقيمة.. لا تفصح عن الدواخل ولا تمنح رؤية.. لغة رتيبة لأغراض بسيطة ساذجة، إلا إذا استثنينا المقدمة الشعرية.
ماستروياني كان الجسد والوجه الذي حمل فلسفة الفيلم أو ما يسمى ب (الفيلملوجيا ) حيث الصمت ولحظات التأمل وإيقاع الحركة، وقد تمكنت الممثلة (موروزي) من التوافق مع الشخصية المقابلة لتقدم صورة دقيقة للضياع الذي يعيشه الشباب في تلك المرحلة، وكان أروع ما قدمته تلك الحركات الصادقة في مشهد صالة السينما.. رحل ثيو لكنه ترك لنا تلك الروائع السينمائية التي تنتمي للفن السابع ولا تنتمي إلى صناعة السينما.
فيلم The Beekeeper، تمثيل : مارسيلو ماستروياني، نادية موروزي
إخراج: تيودوروس انجيلوبولوس