محمد جبير
يشكل انجذاب المتلقّي للتواصل مع النصّ عنصرا أساسيا في قياس قدرة ذلك النصّ السردي على عناصر التشويق القرائية التي تحدّ من نزوات المتلقي في طرح هذا الكتاب جانبا والعودة إليه فيما بعد، أو إهماله وتناسيه أو نسيانه، وتلك أمور تحدث مع الكثير من الأعمال الإبداعية من جيدها أو غير الجيد منها، وسيستغرب بعضهم من إدراج الأعمال الجيدة مع نقيضها في هذا الهامش، إذ إن السياق الطبيعي هو في أخذ هذه الأعمال «وأقصد الجيدة» مساحتها الواسعة من الانتشار والاهتمام في سوق الكتب من حيث الترويج ولدى المتلقّي في الحرص على متابعة ما هو جيد في النتاج الإبداعي، لكن هذا السياق الطبيعي الذي نقول فيه قد لا يتلاءم مع نصوص تظهر في زمن معين وتخفت تحت رماد الإهمال المتعمد أو غيره أو لا تحظى بالانتشار والترويج وتذهب إلى رفوف النسيان تنتظر اليد التي تمتدّ لها من أجل إزالة غبار الزمن وإبراز وجهها الإبداعي.
وتبقى أعمال يتردّد صداها عبر الأجيال مع تجدّد القراءات وتنوعها من جيل إلى آخر، إذ تبقى النصوص السردية كما هي منذ أن ظهرت في طبعتها الأولى، فيما تتعدّد القراءات مع تعدد الأهواء والأفكار والمشارب، وإذا أردنا التمثيل إلى ذلك فإننا سنجد الكثير من الأمثلة على ذلك، حيث شهدت الكثير من النصوص السردية حياة جديدة جرّاء قراءات بعين مفتوحة على أفق الحياة.
برزت هذه الأفكار وأنا أقرأ في الطبعة الأولى من رواية «زجاج الوقت» للكاتبة «هدية حسين» والصادرة في عمان «2006» عن دار «نارة»، سبق لي أن قرأت الأحدث إلا أن هذه الرواية استوقفتني لما كشفته من مهارات فنية لدى الكاتبة وقدرة سردية في بناء وتداخل الأحداث وصياغة الحكاية العامة، وتداخل الأصوات التي شكّلت العناصر الجمالية للبنية السردية في هذا النصّ الروائي.
تنهض جملة العتبة الافتتاحية في هذا النصّ على بعدين،إشكالي وإيهامي، وهو مايربك لاحقا تصورات المتلقي الاستباقية، ويدعوه إلى البحث عن العلائق المشتركة واشتباك الحكاية بين سرديات العمة «كصوت» وبين سرديات «حنان» ابنة الأخ، وتسعى حنان من خلال ماترويه من أحداث إلى فكّ الاشتباك بين الوهم والواقع، إلا أن هذا الالتباس الحاصل لدى العمة قد تراه العمة في «حنان» التي تبحث عن الدفء والحنان في حضن العمة التي تريد أن تكتب روايتها، روايتها هي وليس رواية الآخرين، أن تخبرنا بما تفكّر، وبما جرى لها من دون أن تفكر في تدوين لحظة حاضرة أو تنشغل في التفكير بها،وإنما تترك الأمور تنساب كيفما يحلو لها ذلك.
إلا أن السؤال الذي يمكن الخروج به من قراءة هذه الرواية هو ماهي مساحة البوح في النص؟ وكيف يمكن أن تتشكل الواقعة السردية في مثل هذه النصوص السردية؟ وماهي إضافات المتلقّي إلى النصّ؟ شكّلت بنية التوازي السردي في حكاية العمة مع حكاية البنت عنصر الجذب والشدّ في النصّ فقد قامت هذه البنية على الاسترجاع وتفعيل الآني للحكاية السردية، فكانت استرجاعات حكاية العمّة سواء عن طريق الوهم أو التفكير في كتابة رواية ما جرى لها من وقائع وحوادث غيّرت مسارات حياتها الحالمة لتتركها وحيدة مع مجموعة من أوهام لايمكن الركون لها، وإنما تعيش في ذاكرة تكاد أن تكون مخربة لتبني فعلا انتقاميا من الأخ والد «حنان» الذي رسم نهايات الوحدة في حياة العمّة.
وأتاحت بنية التوازي المساحة الكاملة لإظهار المهارات الفنية للكاتبة في رسم المشاهد السردية في التوالي الحدثي لربط وتفعيل وتفاعل خطَّي الحكاية السردية، ففي الوقت الذي توحي فيه جملة عتبة الاستهلال إلى تصورات معينة في مسارات الحكاية،إلا أن الكتابة سرعان ماتنسف ماعشّش في ذهن المتلقي بجملة أخرى تشكّل بداية لحكاية تريد إعادة صياغتها أو إنتاجها من جديد على أنقاض الحكاية التي رسمها المتلقّي في ذهنه من خلال إيحاءات الجمل السابقة في النصّ، وكأنها ربّان سفينة يقبض على مقبض الحركة والقيادة ليعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح، لكن في السرد لايوجد هناك مسار صحيح وآخر خاطئ، فكل المسارات صحيحة، وكل المسارات خاطئة، وصحيحها خاطئ وخاطئها صحيح، لكن عليك أن تثبت مهاراتك في إدارة الأحداث.
«أعرف أنني أقف على شفا زاوية حادة بين الوقت وخارجه، ولكن قبل أن أتوارى يمكنني القول ما أريد وأنا أتأرجح وأميل قليلا داخل الوقت.. لاشكّ بأنكم جئتم برأي مسبق عني، لذلك لن أحدثكم عن كل ماجرى ليقيني بأنكم ستعدّونه ضربا من الخيال، أو على أقلّ تقدير نوعا من المبالغة، أو جزءا من الحالة التي اتهمتوني بها عن عدم سلامة قوى العقلية، ناسين أو متناسين أننا لانملك خيارا لمصائرنا، فهي معدّة سلفا، ونزعم أننا اخترناها بملء إرادتنا».»زجاج الوقت- ص7».
ما الذي يمكن أن نخرج به من قراءة وتأمل هذه العتبة إذا قرناها بعتبة الختام في هذا النص؟ قبل أن تذهب إلى تلك الجملة فإن ما نراه في هذا المستلّ من النصّ يوحي بأن هناك مسعى جادّا من قبل الكاتبة في تهيئة المتلقّي للتعامل مع ما سيأتي من مسرودات على المستوى المشهدي الحواري أو الوصفي الكتابي، أو الاسترجاع الاستذكاري أو توثيق اللحظة الآنية، وكل مفردة من هذه المفردات لها وظيفة فنية ودلالية في النصّ، وهذه المفردات هي التي تترك الحكاية السردية تسير في خطين متوازيين، لكنهما يلتقيان خلافا لمنطق النظريات الهندسية،فلنظرية السرد منطقها الخاصّ الذي يقف خارج الزمن «الوقت»، ويرسم أفقه الخاصّ في ذهن المتلقّي، وإذا عدنا إلى فحص جملة العتبة الاستهلالية وأعدنا تفكيك تلك الجملة إلى وحدات ثيمية فإننا سنجد أنفسنا أمام عدد من الثيمات يسعى هذا النص أن يكشف عنها، ومن هذه الثيمات الآتي:
أولا: ارتباط جملة العتبة مع عتبة النص، وهو ما يؤكّد ترسيخ «الوقت» بوصفه قيمة زمنية ووجودية تكتسب رمزيتها الخاصة من خلال مجرى وتنوع تحولات مسار الحكاية في إيقاعها الافتراضي «الذهني» والواقعي «اليومي».
ثانيا: الوقوف في منطقة حرجة بين الوقت «الآن» وخارجه، وهو الأمر الذي يدفع بالشخصية المركزية لأن تكون في اللحظة «الآن» وخارج الآنية في زمن الافتراض والحلم «الحب» الذي يسكن العقل والروح، حلم العمّة الذي اغتاله تعنّت الأخ.
ثالثا: إمكانية السارد في الاختفاء، لكن أين يمكن له ذلك؟ وما شكّل ذلك الاختفاء؟ هذا ما سيسعى إليه المتلقّي من خلال العلاقة التواصلية مع النصّ.
ونلمس في هذه الجملة أن صوت الراوي ينتقل من ضمير الأنا إلى المخاطب داخل هذه الجملة، ففي الشطر التعريفي يبرز ضمير الأنا ليعرّف المتلقّي بما يريد أن يبوح به، وهو الأمر الذي لمسناه في الثيمات الثلاث السابقة، إلا أن الشطر الثاني من هذه الجملة يغادر الصيغة التعريفية إلى الصيغة التشاركية في استخدام السارد لصيغة المخاطب، والذي ارتكزعلى:
أولا: اتّهام المتلقّي بتكوين رأي مسبق.
ثانيا: جرّاء هذه الاستباقية لا وجود لحديث عن كل ماجرى.
ثالثا: يقينية السارد بعدم تصديق المتلقّي.
رابعا: عدّ ما يأتي ضربا من الخيال أو المبالغة أو الجنون.
التشارك أو التحذير أو الاستفزاز والاتّهام كلها من العوامل المساعدة والمحفزة على بناء علاقة تفاعلية إيجابية بين طرفَي معادلة قراءة النصّ والمتلقّي، وهو الأمر الذي أرادت الكاتبة أن تحقّقه في جملة عتبة قصيرة لخلق عنصر التشويق والإثارة والتحفيز على مواصلة فعل القراءة.
وإذا عدنا إلى تساؤل سابق في تحديد مستوى العلاقة السردية بين جملة العتبة وجملة الختام في هذا «وأبدأ الكتابة مخاطبة عمتي من أول يوم تلقفتني فيه بين يديها وأنا أنقذف من رحم أظلم مجهول إلى عالم أكثر جهلا.. ولا أدري.. إلى أين سأنتهي».» الرواية -170».
قد تضئ جملة الختام الكثير من التفاصيل التي انتعشت اخضرارا في أرض النصّ الخضراء واحتار المتلقّي في طريقة إنباتها، إلا أن ما اخضرّ من تفاصيل الحكاية وجد ثمرته في النهاية المفتوحة التي جاءت بها جملة الختام، وكشفت عن رواية داخل رواية، فهناك رواية العمّة التي تجشمّت عناء شراء «رواية جديدة لكاتبة مغمورة تدعى هدية حسين».» الرواية –ص51»، حيث «تغيير أسلوب حياتها شيئا فشيئا بعد الشروع بكتابة الرواية.. ليس بسبب المشروع ذاته وإنما لأنها وجدت شخصيات أخرى تشاركها وتخرجها من روتين حياتها طالما لاتقيم علاقات مع الجيران».» الرواية-ص90».
إن رواية «زجاج الوقت» هي الصوت الثاني للرواية المفقودة التي كتبتها العمة، فقد أعلن النصّ عن ولادته راويا للتفاصيل كلها وتاركا أفق المستقبل مجهولا ينتظر من يرسمه في نصّ لاحق.