الدولة العراقية وبنيتها الاجتماعية


سعد عبد الرزاق حسين

صدر للدكتور فالح عبد الجبار في سنة ٢٠١٧ كتاب تحت عنوان: «كتاب الدولة، اللوياثان الجديد»، الذي تعود فكرة كتابته إلى عام ١٩٩١. ويتناول مراحل تأسيس الدولة العراقية، منذ نهاية العهد العثماني، وحتى احتلال العراق في ٢٠٠٣. ويكمل هذا الكتاب، مخطوطة، تحمل عنوان: «اللادولة»، تتناول الفترة منذ احتلال العراق في ٢٠٠٣ وحتى انتخابات كانون الأول ٢٠٠٥، برغم أن مقدمة المخطوطة، كانت قد كتبت في عام ٢٠١١.  ويكمل الكتابان أحدهما الآخر بشكل كبير، إذ إن موضوعهما هو الدولة العراقية وما جرى فيها من تطورات، ومراحل صعودها ونكوصها، ومحاولاتها المستمرة للوصول إلى العصر الحديث.

الدولة ومفاهيمها

وللدولة اليوم تعاريف عديدة، خاصة الحديثة منها، لكن جميعها تدور حول أن: «الدولة، هي التنظيم السياسي للمجتمع، أو الجسم السياسي، وأكثر تحديدًا، هي مؤسسات الحكومة. الدولة هي شكل من أشكال المجاميع البشرية، تتميز عن غيرها من الجماعات الاجتماعية من خلال أهدافها، في ترسيخ النظام والأمن، ووسائلها تتم عن طريق فرض القوانين، وحدودها، هي المنطقة المحددة بسلطة قضائها أو حدودها الجغرافية، وأخيرًا من خلال فرض سيادتها» .  ويعرفها ماكس ويبر بوصفها: «المحتكر  الشرعي لاستخدام العنف، الذي تفرض من خلاله أوامرها». وهذا النسق من الأوامر والقوانين يسعى لأن يكون نفوذه ملزمًا لكافة مواطني الدولة، وكذلك لكافة الفعاليات المختلفة المتعلقة بحدود سلطة الدولة القضائية .

واختيار عنوان «اللوياثان الجديد» يحمل إشارة ذكية تذكر بكتاب توماس هوبز «ليفياثانLeviathan-» الذي يعتبر من أول المؤلفات الحديثة عن الدولة، الذي صدر في عام ١٦٥١. يشير هذا العنوان إلى المصطلح التوراتي الأسطوري للحيوان البحري الضخم الذي يشبه الحوت والتمساح، والقصد منه هو ذلك البناء الضخم والمخيف للدولة. وظهرت الدولة الحديثة حسب هوبز، بعد أن أصبح من الصعب على الإنسان الاستمرار في الحياة الأولية الحرة، التي تتلخص في «حرب الجميع ضد الجميع». وهكذا ينبغي على الإنسان أن يتنازل عن بعض حقوقه الأساسية، وتحويلها إلى شخص أو جماعة تقوم بتنظيم حياته داخل المجتمع -فكرة العقد الاجتماعي-، ومن دون ذلك، لا يمكن أن يقوم المجتمع، ولا أن يحصل الإنسان على السلم والأمان، بل إنه لن يتمكن من القيام بالأعمال الحرفية أو الصناعية أو التجارية… إلخ، وبكلام آخر لا يتمكن من القيام بأي عمل مثمر.  واعتبر هوبز أن «الحالة الطبيعية» للإنسان تتلخص في اهتمامه بذاته وفي المنافسة مع الآخرين. «فيعرض الإنسان نفسه لحكم الدولة بوصفها الوسيلة الوحيدة لحفظ النفس، التي بواسطتها يتمكن من الهروب من الدوامة الوحشية للتدمير المتبادل القائم على علاقته بالآخرين» .  وإذا كان كتاب هوبز يعنى ببدايات نشوء الدولة وتطورها، فإن كتاب فالح، يعنى، ومن ثم في مخطوطة «اللا دولة»، بانهيار الدولة العراقية وانحلالها، من خلال تحولها إلى دولة فاشلة.

يستعرض كتاب «اللوياثان الجديد» مسار الدولة العراقية منذ تأسيسها في عام ١٩٢١، مع العودة إلى التاريخ العثماني بنهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الذي ارتبط بتشكيل الدولة من خلال فترة مدحت باشا، وانقلاب ١٩٠٨ في تركيا، والحرب العالمية الأولى، واحتلال بريطانيا للعراق.

مجتمع ما قبل الحداثة

كان المجتمع العراقي في هذه الفترة، التي يطلق عليها فالح «مرحلة ما قبل الحديثة» عبارة عن: دويلات مدن، ومافيات الأحياء، والأصناف الحرفية، والقبائل، والعشائر، والأشراف، والعائلات.

ويتطرق الكتاب إلى مرحلة تأسيس الدولة العراقية، وجهود الملك فيصل الأول في بناء دولة حديثة، وتذبذب البريطانيون بين الاعتماد على فئة الضباط الشريفين ومثقفي المدن، الذين كانوا يشككون في ولائهم، وبين رؤساء العشائر باعتبار أن العراق بلد ريفي بالدرجة الأولى.  وبموجب قوانين ١٩٣٢-١٩٣٣ تحول رؤساء القبائل  من الأوصياء على الأراضي بشكل تعاوني، والخاضعة لحيازة العشيرة، إلى طبقة كبار ملاك الارض، مستغلين عمل أفراد عشائرهم في الأرض، ومن ثم أصبحت هذه الطبقة، تدريجيًا، الطبقة السياسية الأساسية حتى نهاية العهد الملكي في عام ١٩٥٨.

ويعتبر فالح أن المرحلة الأولى لتأسيس الدولة العراقية محددة بالسنوات ١٩٢١-١٩٦٣، جرى فيها محاولة خلق أمة حديثة في إطار ليبرالي اقتصادي، وسياسي، ثم تحولت في المرحلة الثانية ١٩٦٣-٢٠٠٣ من دولة «تسلطية – عسكرية» إلى دولة «توتاليتارية – قرابية».  أما المجتمع العراقي فقد انتقل من المرحلة الأولى (ما قبل تأسيس الدولة العراقية) باعتباره مجتمعًا تقليديًا، إلى المرحلة الثانية (بعد تأسيس الدولة) التي ظهرت فيها البنى الاجتماعية الاقتصادية الحديثة: الطبقات، الفلاحون، أصحاب الأراضي. فبلغ أكثر من نصف المجتمع المرحلة الثانية، ولا يزال الربع حتى الأن عند المرحلة الأولى، والباقي بقي بين المرحلة الأولى والثانية. وهكذا يعتبر فالح المجتمع العراقي، مجتمعًا انتقاليًا «تتعايش فيه النظم الاجتماعية الحديثة والتقليدية، وتتداخل مع وجود روابط وسيطة ضعيفة وقدرة مؤسساتية ضعيفة، وثقافة تقليدية تتطور على خط طائفي» .  ومستندًا إلى سلاغليت وبطاطو: لا تشكل الطبقات الحديثة سوى ٢٨٪ من السكان، والعمال ٩٪، أما الباقي ٦٣٪ فيتألفون من أكثرية عديمة المعرفة، ومتدنية التعليم، مفتقرة إلى الأدوات التنظيمية الضرورية للعمل الاجتماعي.

وبخصوص الفئات الوسطى في المجتمع، التي لم تتمكن من أخذ مواقعها المفترض أخذها بعد ثورة تموز ١٩٥٨، فبقيت ضعيفة ومنقسمة على نفسها، وبدلًا من أن تتولى السيطرة والنفوذ، جاءت فئات من الموظفين الحكوميين من ذوي الرواتب: موظفو دولة وعسكريون، للسيطرة على الدولة وتمشيتها حسب رغباتهم. وزادت قوانين التأميم لعام ١٩٦٤ في تشرذم الفئات الوسطى من رجال الأعمال والقطاع الخاص. كما يتناول الدور السلبي الذي لعبه القطاع العام في الاقتصاد العراقي.

ويتطرق فالح إلى مسألة النفط وبفضله تحول العراق إلى دولة ريعية، وأصبحت استقلالية الدولة متأتية من اعتمادها على الريع الخارجي، بدلًا من اعتمادها على قواها المنتجة. وساعدت واردات النفط على استقلالية الحكام عن المجتمع، وبالتالي ترسيخ أنظمة الحكم الدكتاتورية.  وبهذا الخصوص يتناول فالح صعود البعث للحكم للمرة الثانية وتحول نظام الحكم إلى النظام الشمولي.  وبعد استلام صدام السلطة جرى تحول النظام الريعي – التسلطي- إلى نظام أسري توتاليتاري، ومن ثم صعود القبيلة والدين بعد عام ١٩٩١.

إن فكرة كتاب «اللوياثان الجديد» تدور حول ملاحظة أن الدولة في العراق وفي بعض دول العالم الثالث: «الدولة كل شيء، والمجتمع لا شيء»، وعلى عكس تطور الدولة في الغرب فهي في عالمنا الثالث: «كائن همجي، لا عقلاني، يمثل إرادة جزئية، جزافية“.

وفي «اللادولة»، يحلل فالح القضايا التي رافقت احتلال العراق في ٢٠٠٣ بكثير من التفاصيل، معتمدًا على المقابلات التي أجراها مع عدد كبير من الشخصيات السياسية والإدارية والصحفية وغيرها، وكذلك على المقالات الصحفية سواء في الصحف الوطنية أم الأجنبية، وعلى الدراسات والمؤلفات التي تناولت هذه الفترة.  ويبدأ الكتاب بمراجعة فترة العقوبات الدولية على العراق بعد حرب ١٩٩١، وينتقل إلى فترة التحضير لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، وتباين الرأي حولها بين «الواقعيين» و»المثاليين»، إذ يعتقد أصحاب الرأي الاول، بأن العالم العربي تقليدي وتسلطي غير قابل للإصلاح الديمقراطي، بينما يعتقد الآخرون أن الديمقراطية ستكون عملية عسيرة، لكنها قابلة للتطبيق. ويلخص وضع المجتمع العراقي بعد الاحتلال بالتالي: «لقد خرجت الأمة لتوها من ٣٥ سنة من الحكم التوتاليتاري الذي خلَّفها في أزمة هوية، تشظ عرقي وطائفي عميق، وتدمير شبه تام للمؤسسات الحديثة» ، وفي مكان آخر «كان المجتمع العراقي في أزمة هوية عميقة، تتحارب فيها قطاعات متخاصمة عرقيًا، ودينيًا، وطائفيًا، وقبليًا.»  ثم يتناول الكتاب فترة غارنر ومن ثم بريمر، والتغيير الذي حدث في السياسة الاميركية نحو العراق، الذي تكرس في قرار مجلس الأمن ١٤٨٣ في ٢٢ آيار ٢٠٠٣.  وينتقل الكتاب إلى تحليل الحركات والجماعات الإسلامية الشيعية والسنية التي صعدت إلى السطح في هذه الفترة وتدهور التيارات القومية العربية والماركسية، ويكتب بهذا الخصوص: « ماذا حصل إذن، حتى تنهار السياسة الأيديولوجية، لتحل محلها سياسة الهوية، سواء القديمة، ما قبل الحديثة (الطائفية المذهبية، والقبلية، تحديدًا) أم الهوية الجزئية الحديثة، أي الأثنية (الأكراد، التركمان، الآشوريون) الجواب يكمن في بنية الدولة، فهي العلة وهي الترياق» . ويتطرق الكتاب إلى دور القبائل والعشائر منذ عام ١٩٩١، ودورهم فيما بعد إبان الاحتلال الاميركي.  كما يتعرض الكتاب إلى أوضاع الطبقة المنتجة والوسطى والصناعية، ويؤكد على نمو قطاع الموظفين من ذوي الرواتب. كما يتناول الكتاب تحليل أسباب الإرهاب الذي رافق الاحتلال الاميركي، وطبيعة المنظمات والحركات التي مارست العنف والارهاب. أخيرًا يصل الكتاب إلى فترة مجلس الحكم واسترجاع السيادة في ٢٨ حزيران ٢٠٠٤، وقانون إدارة الدولة المؤقت وانتخابات كانون الثاني ٢٠٠٥، والاستفتاء على الدستور ونتائج انتخابات كانون الاول ٢٠٠٥.

ولإلقاء الضوء على أفكار فالح عن الدولة، من المناسب الاستعانة بمفهومين مهمين، الأول، المجتمع يصنع الدولة، والثاني، الدولة تصنع المجتمع . وبشكل عام فإن أغلب المجتمعات الحديثة سارت على طريق أن المجتمع يصنع الدولة، بمعنى أن الدولة تتأسس في ضوء بنيتها الواسعة: طبقات، فئات، مؤسسات اقتصادية وأحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية، وغيرها، جميعها لها انعكاسات في هذا الشكل أو ذاك، على طبيعة الدولة وسلطتها الحاكمة. ومن أهم النظريات السياسية التي تتبنى هذا المعيار هي «التعددية» و»الماركسية».  أما أصحاب الاتجاه الثاني، الذي يؤكد تدخل الدولة في بنية المجتمع وتغيرها بالشكل الذي يخدم مصالحها أو مصالح البعض من تكويناتها، فتمثلهم نظريات: «الليبرالية الجديدة»، و»نظريات النخبة»، و»مؤسساتية الدولة».  وهناك عدد من النظريات السياسية التي تقف في الوسط بين المفهومين، كما أن بعض التطبيقات الحديثة من هذه النظريات تحركت صوب الجانب الثاني من المفهوم، فتلك التي تؤكد على أن المجتمع يصنع الدولة، تقربت من تلك التي تؤكد أن الدولة تصنع المجتمع، والعكس صحيح أيضاً.

تشكيلات حديثة

وإذا نظرنا إلى مسار الدولة العراقية، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، نجده ميال إلى سطوة الدولة على المجتمع، فيتمكن من بيده السلطة من تغيير عدد من جوانب بنية المجتمع.  فالبريطانيون سعوا لتشكيل بنية اجتماعية حديثة، وربما نجحوا في هذا المضمار إلى حد كبير، فظهرت طبقات وفئات وتشكيلات حديثة بجانب تلك التقليدية، رغم أنهم ركزوا على حكم القبائل وبعض العوائل الحضرية.  وجاء قانون الإصلاح الزراعي ليلغي طبقة كبار الملاك، وجرى تحسن واضح لكثير من  فئات الطبقة الوسطى بعد عام ١٩٥٨، إلا أن قوانين التأميم لعام ١٩٦٤ قد قوضت مصالح القطاع الخاص، وجعلته يتردد في الاستثمار في بعض النشاطات الاقتصادية، خصوصًا الصناعية منها.

ومنذ وصول البعث في ١٩٦٨ إلى السلطة ازدادت سهولة التحكم بالمجتمع، خاصة بعد ازدياد واردات النفط، وتحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي. فخلال فترة نهاية السبعينيات، جرى صعود السلم الاجتماعي من قبل فئات جديدة من المقاولين الموالين لرجال السلطة، كما ازدادت في هذه الفترة بشكل لافت للنظر فئة موظفي الدولة.  ونتيجة للغرور وللسياسة الهوجاء لحكام البعث، فتتت العقوبات الاقتصادية الدولية النسيج الاجتماعي للمجتمع، وأوقعت بالكثير من الفئات الوسطى إلى أسفل السلم الاجتماعي، وقاربت بعضها خط الفقر.

وأنهى الاحتلال الاميركي في ٢٠٠٣ الدولة العراقية التي تأسست في ١٩٢١ من خلال حل مؤسساتها الرئيسة، خصوصًا تلك المتعلقة بأمن المواطن وسلامته.  وقد عبر فالح في عشية احتلال العراق بقوله: «النظام القديم قد باد، وما زال النظام الجديد يتشكل.  هذه أمة في حال الانتظار، وعد بلا يقين، ورجاء في حال من الشك.  السؤال الأكبر والأوحد هو: هل بتنا ننتظر غودو على طريقة صامويل بيكيت؟  وإلا فما هي الاحتمالات الأخرى؟» .  ورغم أن خيار الحرب على العراق من أجل تغيير نظام صدام، كان من أسوأ الخيارات، وارتبط على الخصوص بفريق واحد من الاتجاهات الحاكمة في الولايات المتحدة، المعروف بـ»المحافظين – الجدد Neo-Conservative»، الذين وضعوا خطة غزو العراق منذ عهد الرئيس الاميركي الأسبق كلنتون، ومما شجع هذا الفريق على المضي في غزو العراق، هو نجاحه في أفغانستان، من خلال الإطاحة بحكم طالبان. ورغم كل ذلك، فقد حملت بدايات الاحتلال بعض الأمل، من حيث أن النظام السياسي الجديد سيكون ديمقراطيًا في طابعه العام. لا بل جاء متفائلًا للغاية، من حيث فصله للسلطات الثلاث، وضمان حرية التعبير والاجتماع وتأسيس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومراقبة الدولة من خلال مؤسسات مستقلة عنها، وتمكين المواطن من انتخاب حكامه عبر انتخابات حرة ونزيهة، وجاءت كل هذه الإجراءات دفعة واحدة من دون توفر مؤسسات كفيلة بتحقيقها، مما بدد كل الآمال المعقودة عليه.  كان من الضروري لأجل تحقيق مثل هذه المهام إعطاء فرصة أطول لمرحلة انتقالية تتكفل بإصلاح كافة الخروقات والسلبيات التي خلّفها النظام السابق، وخلق المؤسسات المناسبة لتحقيق نظام ديمقراطي متوازن، تكون السلطة القضائية المستقلة الحَكم فيه، كما ينبغي بالضرورة توفير الأمن والخدمات للمواطن، ومحاربة الإرهاب الذي نجح بالتالي في شل العملية السياسية. ويكتب فالح بهذا الخصوص: «يقينًا، لا يمكن للعراق، بل لأي بلد، أن يقوم بعملية أي تحول ديمقراطي إن لم تفكك بنى السلطة القديمة ويعاد تركيبها ثانية؛ ولكن كان الأولى بالطرق، والنظرة، والتوقيتات، المعتمدة في الإجراءات المتخذة لتحقيق هذا الهدف أن تكون أكثر إتقانًا وإرهافًا؛ وكان الأولى بهذا الأخير أن يكون قانونيًا، تدريجيًا، انتقائيًا، بدلًا من أن يكون شاملًا، إداريًا وفظًّا، أي جزافيًا» .  وقد كان بيَّن في «اللوياثان»، أن الديمقراطية، ككل أنظمة الحكم تستلزم وقتًا وجهدًا لتضرب جذورها في المجتمع.

هل سننتظر «غودو»؟ أم هناك أمل في إصلاح الدولة العراقية؟  إن أي فكرة للإصلاح لا بد أن تبدأ بالنخبة الحاكمة، ما دمنا بصدد أن الدولة تصنع المجتمع، إذ ينبغي أن تتوفر لديها الإرادة والقابلية والوضوح في خوض عملية الإصلاح، التي هي ليست من المهام السهلة مطلقًا. ويصعب في ظروف العراق، من اختيار نخبة حاكمة تتسم بالنزاهة، إذ لدينا إرث ما يقارب الست عشرة عامًا لنخب سياسية، هدفها الشخصي الثراء من أموال البلاد.  وللأسف القول بإنه ليس بالضرورة أن تكون هذه النخبة منتخبة من قبل الشعب، كما تم انتخاب جميع النخب السابقة التي احتلت المراكز الأولى في الدولة، وذلك لأن شريحة واسعة من الناخبين، لا تصوت على أساس برنامج وكفاءة المرشح، بل على أساس انتمائه الديني أو الطائفي أو الإثني، وهذا ما ينسف فكرة الانتخابات برمتها. وينبغي أن تتميز النخبة التي نحن بصددها بالهوية العراقية الوطنية، التي لا تفرق بين أبناء الشعب بحسب انتمائهم الطائفي أو العشائري أو المحلي أو القومي. 

وإن أفضل بداية لبرنامج الإصلاح لا بد أن تبدأ بالتخلص من كل مظاهر الدولة الفاشلة المتسمة بالضعف في إنجاز مهامها الإدارية والتنظيمية اللازمة لضبط الناس والموارد. وأن تتمكن الدولة من احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، من خلال التخلص من كل الجماعات المسلحة التي تسير وفق أجندات خاصة بها، وأن لا تتحول أراضي البلاد إلى ملجأ للعناصر الخطرة كأمراء الحرب والجماعات الإرهابية. وأن تقوم بمحاربة الفاسدين وإدانتهم، وتخفيف الصراعات الداخلية، وتوفير الأمن والسلامة للمواطن. والاهتمام بتقديم أقصى الحدود للخدمات العامة الأساسية، وعدم الاكتفاء بالحد الأدني. وينبغي إعادة تقويم مؤسسات الدولة الأساسية: التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث تعمل بالشكل الاحترافي المستقل، وتحفيز طاقات الجهاز البيروقراطي والقوات المسلحة والأمنية. وأخيرًا أن تتمكن الدولة من بسط نفوذها على أرضها وعلى شعبها، وحماية حدودها الوطنية .  وبالتأكيد إن مثل هذا البرنامج يتطلب في ظروف العراق إعادة النظر في مواد الدستور وتعديلها بالشكل المناسب، كما ينبغي إحياء بعض المؤسسات التي أشار إليها الدستور كالمجلس الاتحادي وغيرها.

 لكن، الغريب، أن كل هذه الأمور ليست مخفية على أحد، وحكامنا أفضل من يعرفها، لكنهم غير مستعدين  للتغيير، فالدولة «العميقة» التي صنعوها خلال السنوات الماضية، كافية لحمايتهم من المحاسبة والمساءلة، وتجني لهم ثروات لا طائل لها.  وأخيرًا، لا يبدو في الأفق أن التغيير قادم، وسيكون البديل في الغالب مكلفًا للغاية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة