فالح عبد الجبار والتأسيس لعلم الاجتماع السياسي في العراق


د.لاهاي عبد الحسين:

ينتاب القارئ الشعور باستعجال فالح عبد الجبار لوضع خزينه المعرفي والنظري والمنهجي على الورق بصيغة مكتوبة قبل ان تقرع اجراس الرحيل وهذا ما حصل معه فقد غادر وهو في عز معينه الفكري ومساعيه للتأسيس لمؤسسة اكاديمية ثقافية منفتحة وجامعة كجزء من نظرته للنهوض بالمجتمع العراقي انطلاقا من كونه عالم اجتماع عراقيا وطنيا ومسؤولا يتضح من خلال مراجعة السيرة الذاتية الاكاديمية له انه عمل في عدد من الجامعات البريطانية والاميركية محاضرا واستاذا زائرا وشارك في مؤتمرات وندوات متنوعة بصفته باحث وخبير ونشر عددا لا حصر له من الاعمال في مجلات علمية محكمة وصحف دولية وعربية وعراقية وظهر في القنوات التلفزيونية  فكان اخر ما فعله  حديث له في برنامج «العراق في قرن» الذي كان يبث من قبل قناة الحرة – عراق وكان حينها رئيسا لمركز الدراسات العراقية في بيروت شهد العالم كيف قضى عبد الجبار نحبه على الهواء مباشرة حيث طلب التوقف وهو يمسك قلبه وقطع البث واخذ فورا الى المستشفى في بيروت  وما هي الا ساعات حتى اعلن  عن وفاته في السادس والعشرين من شباط 2018 مات واقفا ميتة الابطال كما عبر اصدقاؤه ومحبوه.

كتب معظم اعماله باللغة الانكليزية وترجمها في ما بعد بمعية مترجمين او فريق ترجمه تعاون معه على نحو قريب ومنا يظهر انه اختار العمل في مجال العالمية من اجل خدمة قضايا محلية فقد هيمن الشأن العراقي على كل مساهماته وصار حجة يشار اليها بالبنان ويستدعى للاستشارة بصدد ما يعتمل فيها تميز في اعماله قاطبة من محاضرات واحاديث ومقالات ودراسات وكتب بغزارة الانتاج وكثافته ووضوح النظرة واولوية الاهتمام بالقضية العراقية.

ولعل ابرز ما حققه وهو المغترب من خلال السعي للحصول على منح بحثية يقوم بها بنفسه او باشراك فريق عمل يختار المشاركون فيه بعناية العمل على تأسيس علم اجتماع سياسي في العراق. استطاع ان يصل بمساعيه هذه الى انجاز اربعة كتب نشرت بالتعاقب قبل سنوات قليلة من رحيله المبكر. شملت هذه الكتب العمامة والافندي وما بعد ماركس وكتاب الدولة ودولة الخلافة فيما يلي نعرض نقديا لكل منها لاهميتها وصلتها المباشرة بانجازه العلمي والفكري المميز.

العمامة والافندي

يمكن اعتبار هذا الكتاب الضخم الذي يقع في (590) صفحة احد الاعمال المهمة التي وضع فيها عبد الجبار جهده وطاقته لتقديم جانب مهم من اهتمامه بالشأن العراقي وكما جاء تمهيدا للكتاب فأن مادته تعود الى العشر سنوات الاولى من عقد التسعينيات (1991-1998) والتي كتبها باللغة الانكليزية وقد اضطر بسبب تأخر نشر الكتاب بالعربية في حينه الى كتابة مقدمة له استجابة لاقتراح الناشر حول ما حدث في العراق عام 2003 حيث اسقط النظام السياسي الشمولي التوتاليتاري القائم آنذاك واستبدل باخر من خلال ما اصطلح عليه بحرب العراق التي قادتها الولايات المتحدة الاميركية بعملية احتلال عسكري اجنبي معترف بها امميا صدر هذا العمل اولا بعنوان الحركات الشيعية باللغة الانكليزية في لندن عام 2003.

تضمن الكتاب خمسة فصول تطرق فيها الى جوانب متعددة يمكن ان تكون مادة علمية بحد ذاتها في بحوث ودراسات مستقبلية ومستقلة تستكمل جهوده العلمية فيها فقد حمل الجزء الاول عنوان الدولة الامة النزعة الاسلامية. وفيه يعرض للاطار النظري للدراسة ويقدم المقاربات النظرية الشائعة في هذا المجال وحمل الجزء الثاني عنوان النشوء والطفرة والذي يركز فيه على حزب الدعوة وتشكيل جماعة العلماء في ستينيات القرن الماضي ويتعرض للخصائص الاجتماعية لكوادر الحزب ممن وصفهم بالشباب المجتهد والمتضررين من ذوي الاصول الطبقية الوسطى والتجار. فيما جاء الجزء الثالث بعنوان الفضاءات الثقافية:  المرجعية والطقوس الشعبية واهتم هذا الجزء بتسييس الام الخلاص من خلال طقوس عاشوراء وزيارة الاربعين واختار عنوان التصادم  في عهد البعث بالنسبة الى الجزء الرابع والذي تضمن متابعة للانتقال من مرحلة الاحتجاج السلمي الى المواجهة الدموية العنيفة واختتمه بالجزء الخامس الذي حمل عنوان الايديولوجيا: النظريات الاجتماعية- السياسية والنظريات الاقتصادية وركز فيه على التوجهات السياسية للجماعات الشيعية من خلال ممثليها من رجال الدين مثل فضل الله نوري والنائيني كان الاول من انصار الحكم المطلق فيما ايد الثاني الدستور. وظهرت بعدهما المدرسة شبه السلطوية التي مثلها الخميني والشيرازي والمدرسي فيما تمثلت المدرسة الشعبوية- الليبرالية بالصدر وتمثلت المدرسة الثالثة الديمقراطية ببحر العلوم وشمس الدين ومحمد عبد الجبار.

ليس واضحا لماذا اختار عبد الجبار عنوانا واسعا لهذا الكتاب عندما صدر بعد ترجمته الى اللغة العربية من حيث ان قراءته تؤدي قطعا الى اعتباره كتابا مختصا بالاسلام السياسي الشيعي على وجه التعيين من 1968 وحتى 2003 وهذا ما استهل به د.سامي زبيدة تقديمه للكتاب واصفا اياه بالفضاء الشيعي الذي اتسم بعدم التطابق والتوحد والاندماج فقد ضم هذا الفضاء بحسب زبيدة اطرافا متنوعة كان من بينها العلماني كالحزب الشيوعي العراقي بدلالة كثرة من قادته وكوادره ذوي الاصول الشيعية وكذلك الحال بشأن قاعدته الشعبية التي ظهرت في مدن واحياء ذات اغلبية شيعية وشمل هذا الفضاء ايضا المرجعية الدينية في النجف وكربلاء وابراز  دورها في ادامة الطقوس الشيعية التي غذت الفضاء الشيعي الشعبي بقوة مستدامة وصارت رمزا للنزاع والتحدي في المجتمع العراقي هذا الى جانب المدارس الدينية الاخرى في مدن العتبات المقدسة ذات الطبيعة الكوزموبوليتية التي تمثلت بتنوع طلبة واساتذة هذه المدارس والحوزات ممن قدموا من شتى بلدان العالم. واشتمل هذا الفضاء ايضا وفقا لزبيدة على الجمهور القبلي العشائري القادم من اطراف المدن الدينية المذكورة الامر الذي اسهم بإضفاء مسحة مميزة للفضاء الشيعي العراقي مقارنة بالفضاء الشيعي الايراني.

مهما يكن من امر فأن هذا الكتاب يوفر مادة مرجعية مهمه للدارسين والمختصين والمهتمين بالاسلام السياسي الشيعي في العراق بحكم اشتماله على مصادر ووقائع وتصريحات لم تذكر من قبل جمعها ميدانيا من خلال المقابلات والحوارات المباشرة وغير المباشرة هاتفيا والحصول على وثائق لم تنشر بصورة رسمية انما بقيت مدار التداول على المستوى التنظيمي كالنشرات والبيانات والتبليغات البينية.

ما بعد ماركس

يقدم عبد الجبار في هذا الكتاب قراءة نقدية مهمة للنظرية الماركسية التقليدية ومناقشة لعدد من الخطاء الشائعة في الادبيات العربية حولها لعل في مقدمة هذه الاخطاء شيوع الاعتقاد بأن النظرية الماركسية تنغلق على وجهة نظر محددة وتسمح للحزب الثوري ان يمارس دوره ليكون وسيلة من وسائل التغيير ويذكر بما قاله ماركس اصلا حول فكرة التطور الطبيعي لمجرى الاحداث التاريخية ويلاحظ ان ماركس لم يتخذ موقفا محددا  من كتاب وعلماء معينين على اعتبار انهم رأسماليون او غير رأسماليين على العكس نظر ماركس الى مفكرين من امثال ادم سمث وسيجموند فرويد وهربرت سبنسر ولويس مورجان وعشرات غيرهم على انهم مفكرون يمكن الافادة منهم ولم يكن ماركس حديا بشان الموقف من المشاركة بالانتخابات من عدمها فالثورة الدموية وسيلة مهمة ولكنها ليست الطريق الاوحد لاحداث التغيير المرغوب به لصالح الطبقات المعدمة لذلك يدعو عبد الجبار الى التخلص من حكم الملخصات والاحالة المجردة الى النصوص ويعبر عن اتفاقه مع ما ذهبت اليه مدرسة فرانكفورت النقدية للارث الماركسي التي رأت ان ماركس لم يستكمل مشروعه وان تقدما نوعيا حدث في المؤسسات الاكاديمية الحديثة على صعيد المناهج مما يتطلب

الافادة منها ثم ان للزمن الذي ظهر فيه ماركس مقيدات مهمة تتطلب جهدا لتعقب ما حدث بعده لغرض الاستفاضة على ما انجزه لتحرير الماركسية من محبس الايديولوجيين الجامدين ممن حدوا من تطورها كنظرية علمية ووقفوا دون ان تسلط ضوءا على البنى الفوقية في المجتمع وفي مقدمتها الدولة والمؤسسات الثقافية مما لم تحظ بما تستحق من الاهتمام.

وضع عبد الجبار هذا الكتاب بعد قيامه باعادة ترجمة كتاب رأس المال بمجلداته الثلاثة لكارل ماركس مما يؤكد احاطته الممتازة بالفكر الماركسي كما سيأتي تباعا وهذا ما يؤدي الى قراءة كتاب الدولة الذي يسعى من خلاله الى تقديم مساهمته البحثية لاغناء الفكر الماركسي وتحديثه من خلال التركيز على الحالة العراقية.

كتاب الدولة

يستهل عبد الجبار هذا الكتاب معقبا على الغزو الاميركي للعراق عام 2003 بالقول: هذه هي المرة الرابعة التي تقع بغداد فيها ضحية لأحتلال اجنبي والذي امل ان يكون الاخير في سنين حياتي وهذا ما كان فقد رحل فالح عبد الجبار بعد خمسة عشر عاما من ذلك التاريخ ربما لكي لا يشهد فاجعة اخرى من مثل ما شهد وتمنى ان تكون الاخيرة في سنين حياته الفردية يذكر انه عارض فكرة التغيير عبر الاحتلال العسكري كما ثبت ذلك في عدد من المقالات التي نشرها في صحف عالمية منذ عام 2000 اثناء حملات التأجيج بهذا الاتجاه مؤكدا على احتمال انطلاق قوى دينية وعصبوية وقبلية متناحرة نتيجة ذلك اهتم عبد الجبار في هذا الكتاب واصفا اياه باحد اهم انجازاته العلمية والمهنية من حيث انه استطاع ان يبلور فيه نظرته للمستقبل النظام السياسي والدولة في العراق وقد وضع خلاصة لهذا الكتاب في محاضرة قدمها في اكثر من مكان  من بينها الاتحاد العام لادباء وكتاب العراق وورقة عمل قدمت الى مؤتمر النخب الوطنية التمهيدي لمؤتمر بغداد للمصلحة الوطنية العراقية 11-12 كانون الاول 2017 الذي عقد في بغداد حملت الورقة عنوان دولة بلا امة – امة بلا دولة وتضمنت مقترحات للخروج من الازمة الدائرية نحو المصالحة الوطنية الشاملة قدمت الورقة غيابيا من قبلي يتعذر حضوره الى بغداد في حينها لأسباب فنية عرض عبد الجبار في هذه الورقة للنموذجين الالماني والفرنسي لنمط الدولة مبينا ان الاول يهتم بعلاقات الدم والتاريخ واللغة في ما يقوم الثاني على فكرة المصالح المشتركة والاستفتاء الدائم لكسب ثقة ورضا اعضاء الجماعة الوطنية حسم موقفه من الانموذجين المشار اليهما من خلال تأييده وتبنيه للنموذج الفرنسي الذي رأى انه الاسلم لقيادة وتصريف شؤون الآمة والبلاد.

قدم في هذه الورقة ثمانية شروط لتحقيق نمط الدولة الناجح يمكن ايرادها كما يلي:

1 – تحقيق السيادة الداخلية القائمة على الشريعة الدستورية عن طريق الانتخابات

2 – احتكار وسائل العنف المشروع بلا قوى مسلحة خارج اطار وسلطة الدولة

3 – فتح الجهاز الاداري لكل المواطنين بلا استثناءات

4 – اعادة تنظيم الجهاز العسكري- الامني كجهاز منفتح ومفتوح لجميع المواطنين

5 – بناء اقتصاد السوق الحر

6 – تخفيف الاثار السلبي للاقتصاد الريعي الذي يربط المواطن بالحاكم

7 – تمتين شروط التجانس الثقافي في المجتمع ونسيان ضغائن الماضي

8 – العمل على تأمين المصالح المشتركة وتعزيزها فيما بين الجماعات الوطنية واعتماد الية الاستفتاء الدائم للتحقق من رضا المواطنين على صعيدا العنوان ذكر عبد الجبار انه تحير في عنوان هذا الكتاب وانه اختار عنوان كتاب الدولة مستعيرا اياه من الكاتب العراقي عامر بدر حسون وثبت انه استعار الجزء الثاني من عنوان الكتاب اللوياثان الجديد من الفيلسوف البريطاني المعروف توماس هوبز صاحب كتاب اللوياثان المعروف وكما جرت العادة فيمن سبقوه من العلماء العراقيين ممن عاجلتهم المنية ذكر عبد الجبار ان هذا الكتاب يمثل المجلد الاول من مشروع دراسة تغطي الفترة من بداية القرن العشرين حتى الغزو الامريكي عام 2003 وفيه يؤكد على ان التحدي الذي تواجهه الديمقراطية في العراق يتثمل بالخطاب الايديولوجي بكل مسمياته من قومية وماركسية واسلامية ويعقب بتواضع ان هذا الكتاب  محاولة لقراءة التاريخ الحديث تاريخ الدولة تمهيدا لقراءة دولة اللادولة لما بعد حرب 2003.

يبحث هذا الكتاب بأسباب انهيار النظام السابق ويمثل فرصة للمتجاذبين بهذا الشأن ويوقل فيه لولا الدبابة الاميركية فقد كان النظام يحفر قبره بأدواته والياته كان من بين مارصده في هذا المجال استهانة النظام السابق بدور منظمات المجتمع المدني واضعافها مما افقده الظهير الشعبي الضروري لأي نظام سياسي اسهمت هذه السياسية بنظر عبد الجبار بالسقوط السهل للنظام من حيث انه كان نظاما وحيدا ومعزولا  وبلا دعامات شعبية مؤثرة مكتفيا بالاعتماد على تنظيمات حزبية مثقلة ومتعبة ومتذمرة تعزز هذا التأثير بأنكفاء النظام على الاسرة والقرابة والدين بمعانيه العامة والمذهبية المبتذلة الحق ان هذا الكتاب يوازي من حيث الاهمية العلمية والفكرية كتاب حنة ارندت باستثناء انها قامت بدراسة مقارنة بين النظامين الالماني النازي الهتلري والسوفييتي الاستاليني الاشتراكي فيما ركز عبد الجبار على دراسة العراق فحسب>

دولة الخلافة

يمكن اعتبار كتاب دولة الخلافة الوثيقة العلمية الاكثر اهمية من حيث السعة والتغطية لما حدث في ظل تلك الفترة وصف عبد الجبار دوره في هذا العمل بانه كان الكاتب الرئيس فيه مما يعطيه حق ان ينسبه لنفسه مباشرة وليس الى مترجم او فريق ترجمة كما في العمل السابق العمامة والافندي واعمال اخرى متنوعة واشار الى انه اسهم معه في هذه الدراسة فريق عمل اشتمل على عدد من الباحثين المساعدين ممن عملوا بصفة باحث ميداني او مناقش وكان هناك عدد من الكتاب المعروفين من امثال عامر بدر حسون الذي اجرى مقابلات مكثفة مع نازحين من محافظة الانبار وكذلك يحيى الكبيسي وريناد منصور ورائد طلعت وبرهان محمود وت الهيتي وس الهيتي وصالح الياس ومشرق عباس وهبة نزار هذا الى جانب اشخاص اخرين ادو اعمالا ادارية قاموا من خلالها بتنظيم عرض المقابلات وتصنيف البيانات وجمع المصادر النظرية المطبوعة من المواقع الالكترونية والمكتبية والطباعة وقد وضعت الدراسة التي قام بها الباحث عبد الحكيم جزول ضمن الملاحق وركزت على تعقب اوضاع المسيحين والايزيدين والسلفيين الكرد بحكم قيامه بها كاملة يمكن اعتبار كتاب دولة الخلافة احد اهم ما وضع من دراسات عراقية حول الموضوع  وفيه يتعرف عبد الجبار على ان الاختلال البنيوي بين الدولة بوصفها جهاز حكم وظيفتها كممثل للجماعة الوطنية هو الذي ادى الى صعود داعش ويؤكد ان ظهور تنظيم الدولة اكثر تعقيدا  من مجرد اعتباراها اداة انتقامية من سياسات غير ملائمة مما يحتم البدء بتحليل فكرة الدولة الفاشلة يقع الكتاب في عشرة فصول ستهلها بتقديم اطار نظري عام للدراسة ويوثق في الفصل الثاني فيه لفكرة الخلافة التي يراها رديفة لفكرة ظهور المهدي المنتظر لدى الشيعة ثم يدخل في كيفية صعودها على يد حركات دينية سياسية تمثلت في ضغط الكوادر العراقية.

منهجيته

يلاحظ ان فالح عبد الجبار استخدم منهجية شبيهة بمنهجية على الوردي من حيث انه يقدم لعمله باطار نظري علمي واسع ويشرع بعد ذلك بالدخول في الموضوع يقدم على سبيل المثال لثلاث مقاربات نظرية لدراسته حول صعود الاسلام السياسي الشيعي في العراق منذ ستينيات القرن الماضي كما في المقارنة الطائفية التي تقوم على فكرة الاضطهاد والتمييز ضد الشيعة تلي هذه المقاربة الجوهرية الثقافية التي تقوم على فكرة ان الاسلام ماضوي والحداثة المستقبلية او التضاد بين الاسلام والحداثة على افتراض ورائية الاول وتقديمة الثاني ويختتم بتقديم المقاربة الثالثة التي تنظر الى تصاعد الاحتجاجات الاسلامية وتصاعد زخم الحركة الشيعية بسبب جملة عوامل اقتصادية واجتماعية  وفرت المادة لتبرير الشعور بالاضطهاد والاقصائية .

واستخدم عبد الجبار طريقة التحليل النوعي القائم على اساس الاحاطة التفصيلية والموثقة لموضوعات دراسته ولكنه تقدم خطوات على سبيل تصنيف الحقائق التي توصل اليها من خلال الجداول التوضيحية والاحصائية واي معلومات امكنه الحصول عليها من جهات او منظمات دولية معروفة الى جانب استفاضته في شرح وتوثيق المقابلات الت قام بها فريق عمل كطلفه بذلك.

ظهرت لديه مفهومات مهمة من قبيل مستعمرة العقاب في اشارة الى ما حدث لسكان المدن التي سيطرت عليها داعش واخضعتها لشتى انواع العقاب وقدم فكرة مجتمع الصمت في اشارة الى حالة الذهول التي عبر عنها المجتمع العراقي عشية السقوط السهل  للنظام السابق وتداعي قوته وجبروته وعلل عبد الجبار هذه الحالة بالتماثل المتصاعد الذي عمل عليه النظام في العلاقة بين الدولة ورأس النظام من جانب وابتلاع المجتمع من جانب اخر من خلال اقامة صرح الدولة الشمولية او الكلية او التوتاليتارة كما عبرت عن ذلك حنة ارندت كما ظهر لديه مفهوم الدولة الفاشلة والقبلية الثقافية والقبلية الاجتماعية.

يؤكد عبد الجبار على اهمية النقد العلمي وممارسته كما يقول في معرض القيام بمراجعة نقدية لعمل علي الوردي وابن خلدون مشددا على ضرورة استخدام الحجة وليس اطلاق الاحكام بالقول: لن يجد الباحث عن فكر بلا نقائض ومناهج بلا تلاقح مسرته الا في مقابر التاريخ حيث السكون المطبق.

الخاتمة

يمكن ان يوصف عبد الجبار بتجرد وامانة بأنه كان ممتلئا حد التخمة بالهم العراقي والقضية العراقية والشأن العراقي وكما كان يردد في اكثر من مناسبة فأنه يتابع ذلك بالتفاصيل الدقيقة وباللحظات وليس فقط بالساعات والدقائق والثواني انشغل عبد الجبار في اعماله بالتفسير والاحاطة واهتم بالجوانب الميدانية ما امكنه ذلك واستطاع الوصول الى تصور لشكل النظام السياسي المطلوب في كتاب الدولة وهو ما تكلم عنه في اكثر من محفل يمكن ان يستشف منه توقع فشل الاسلام السياسي مما يفسر سهولة الانزلاق في الفساد والانشغال بالشكليات وهوامر لم يتوفر الوقت لديه ليستفيض عليه. بيد انه عبر عن وجهة نظر اكثر صراحة على هذا الصعيد عندما قال ان احد اسباب فشل النظام السياسي في العراق بعد 2003 انه استبدل العقيدة القومية بالعقيدة الدينية التي عجزت عن حل القضايا المهمة لبناء العراق الجديد وفي مقدمتها الحرية وحقوق الانسان وعدم امتلاك الجماعات التي دخلت تجربة الحكم برنامجا يمكنها من العمل بوضوح.

سيذكر عبد الجبار ليس بوصفه مثقفا وانسانا ملتزما وفذا فحسب بل وكعالم اجتماعي مهم استطاع رغم بعده الاضطراري عن العراق وبحكم ظروف معقدة كثيرة ان يخترق الاجواء الثقافية والاكاديمية الاجتماعية في العراق وسيذكر ليس باعتباره امتدادا لقامة علمية بارزة ومهمة مثل علي الوردي وانما باعتباره قامة عليمة وبارزة ومهمة قائمة بحد ذاتها اختط طريقا مستقلة واستخدم الماركسية الاكاديمية التي لا تنغلق على تفسيرات محددة وانما تنفتح لتستفيد وتفيد اهتم بالطلبة والباحثين وتواصل معهم وبخاصة المقيمين في العراق كجزء من جهوده للتأسيس لعلم اجتماع عراقي وبالتركيز على فرع مهم من فروع علم الاجتماع وهو علم الاجتماع السياسي الذي يعاني شأنه في ذلك شأن الفروع الاخرى من قلة الانتاج المميز الذي يمكن ان يضع اساسا لاستكماله والبناء عليه باستثناء بعض المحاولات التي لم تزل في مراحلها الاولية.

على وجه العموم يمكن القول ان ملامح مدرسة سوسيولوجية مميزة في العراق بدأت بتشكيل في العراق من خلال اعمال علي الوردي ومعاصريه من امثال عبد الجليل الطاهر وحاتم الكعبي وشاكر مصطفى جواد وقيس النوري وعلاء الدين البياتي وعبد المنعم الحسني ومتعب مناف السامرائي وصولا الى فالح عبد الجبار.

* الدكتورة لاهاي عبد الحسين، مفكرة وباحثة اجتماعية عراقية حاصلة على شهادة الدكتوراه من جامعة بوتا في الولايات المتحدة الاميركية عن رسالتها الموسومة ب(التفاوت الجنسي في العراق) من مؤلفاتها وبحوثها )اشكالية الدور الاجتماعي للمنظمات النسائية العربية) (البعد الايديولوجي للعولمة) (الرؤية الاجتماعية للفارابي) وفي مجال الترجمة الرقية والقومية وجهات نظر انثروبولوجية .

*عن مجلة الثقافة الجديدة آذار 2019 .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة