المخبأ

في برزخ الإرسي*

سلام إبراهيم

تب.. تب، فاصلة صمت،.. تب.. تب، اصطدام مكتوم أشبه بوقع رذاذ خفيف. تب.. تب.. تسقط الكتلة المفتتة من السقف الخفيض. تسقط في بئر العتمة منفصلة عن عقادة الآجر المنخور.. تب.. واهنة تستقر على صدره، قدميه، بطنه، عنقه، جبهته منتشرة بنثارها الرطب. تب.. ترن في قعر الإبريق النحاسي، في حوض طاسة الماء المعدنية، على الكتب المكدسة جواره في الحيز الضيق بين فراشه والجدار. في استلقائه الساكن في حلكة المستطيل العريض جهة الرأس، والضيق جهة الأطراف والباب، يستقبل بعينيه الشاردتين، كائنات الغبار النشطة في عراكها المحتدم، وهي تدخل وتخرج من مسارات النور المتسرب من أربع كوى تطل على باحة البيت القديم. يندمل في حركتها العشوائية، الضاجة بصمتٍ، في حبال الضوء التي لا تنجح في إضاءة شيء من دكنة غرفة الإرسي العلية، بل تزيد الزوايا والجوانب حلكةً في عز النهار. يلاصق الجدار الرطب المتآكل جهة الباحة، ساكناً ينصت بشرود كلما خلا البيت وران الصمت، ينصت إلى وقع الجص المتساقط في خواء وحشته، فقد تشابهت النهارات والأيام والليالي، وهو في جحره الضيق المهجور هذا، لا يستطيع النزول إلى الباحة وغرف البيت إلا لفترات قصيرة، وقت خروج عمته الأرملة الجميلة معلمة الابتدائي إلى مدرستها، أو حينما تزور أحداً. في تلك الأوقات يتمدد فضاء حريته كوناً، يصير فضاء البيت بكل غرفه وبلا قوانين وقواعد. في تلك الأوقات يدور بين الغرف. يتمدد على بلاط الباحة.. يتعرى فيها قبيل دخول الحمام. يظل عارياً بعد السباحة.. خفيفاً وهو يخوض في مناحي البيت. لذة لم يجدها في دار أهله المكتظ بإخوته العشرة. يحتدم بعالمه الذي اتسع من مستطيل ضيق كتابوتٍ، إلى فساحة غرف خالية، لكنها محتشدة بأنفاس أحباب غياب، بعبق طفولته، فساحة تتيح له حرية التلصص على نهر الحياة المنحدر خلف نوافذ غرفة الضيوف المطلة على مجرى الزقاق. يتلصصُ عبر زجاج النافذة العالية و»سيمها» المغبر. بكل شوق المستوحش، المضطر إلى الاختباء يمعن في وجوه المارة المضببة بغبار النافذة. يعتنق في شجنه حيوات الشارع المضببة. نسوة وأطفال. شيوخ وشبان. بغايا وأشراف. عشاق يسرقون القبلات في همس يشبه تساقط حبات الجص. يحدق عبر الزجاج المغبر. يرحل في شؤون القسمات، أشكال الأنوف، ألوان البشرات، عالم العيون الزاخر بالظنون. يذوب في تكور المؤخرات الضائقة بالعباءات. بالظهور المنتصبة، الهزيلة. تخدره الحركة المتقاطعة المتقابلة المتوازية الدائمة لأجساد المارة الحميمة، السادرة في شؤونها. هذه صباحات الله التي ضاقت عليه، وتعسرت. وصار مجرد السير فيها حلماً عصياً، قد يكلفه العمر.

تتعبهُ النافذة القديمة العالية، الارتكاز على أطراف أصابع قدميه والميلان المحسوب كي لا يُلْحَظْ من الخارج. يتهالك على الأريكة القريبة. فتظهر أشياء الغرفة من ظلالها الكثيفة رويداً.. رويداً.. المكتبة الصغيرة، المنضدة بخشبها الصاج العتيق وقوائمها القصيرة. لوحة محتشدة بالصور الفوتوغرافية. وجوه أقارب وأغراب تطل على جلسته من ظلال عالمها الساكن، شديدة الحياد في بسمتها الأبدية أو غضبها وضيقها. السجادة المعلقة بالجدار المقابل للنافذتين المطلتين على الزقاق الضيق، يتربع وسطها رجل جميل القسمات محاط رأسه المعمم بهالة ضوء. يحضن سيفه المشروخ، ويربض جواره أسدٌ وديع. الأرائك المتربة. سجادة الأرض القديمة. الرفوف المليئة بالمنحوتات الصغيرة، ديكة منتصبة تشرع بالصياح، ذئاب برأسين وثلاث قوائم، وعول مطأطئة الرقاب، أبقار وقطط، نماذج مصغرة لقباب الأولياء معمولة من النحاس الرخيص والمعدن دأبت عمته على شرائها عند زياراتها المراقد المقدسة. الباب المفتوح على المدخل والمتصل إطاره الأعلى بدرفتي نافذة زجاجية عالية تشغل المسافة بين إطار الباب والسقف. ريشات المروحة السقفية الميتة. يمسح الأشياء بعينيه الذابلتين. يتخيل في استراحته الوجيزة امتداد الزقاق غير المرئي من النافذة، والمتصل بسوق المدينة المسقوف بالصفيح المثقب. يستعيد إيقاع الزحام، اكتظاظ المقاهي، لعبة انتظاراته اليومية على ناصية المقهى، ولهفته لرؤية وجه بهي وآخر.. وآخر حتى حلول الخدر والفتنة. يظل أحياناً حتى نزول المساء تائهاً في المخيلة، مخدراً بالضجة خلف النافذة، تعصف به الأشواق المبرحة إلى أن يجمد مرعوباً من طرق على الباب، رنة جرس يحطم سكون البيت، أو على صوت مفتاح ينحشر بثقب الباب، فيقفز باضطراب سائراً على أطراف قدميه، متحاشياً إصدار أي ضجة، يدلف إلى المدخل. يقطعه بقفزتين. ينحرف يساراً بحذاء جدار الباحة. ينحني والجاً من تحت منضدة مبردة الهواء العالية التي تسدّ السلم القصير المؤدي إلى الإرسي. يرتقي السلالم المتآكلة. يسد الباب الواطئ خلفه متهالكاً على فراشه المترب حيث يستلقي الآن. فمن شروط عمته، أن يلبث في عليته طوال النهار، ولا ينزل إلا لقضاء الحاجة أو للأكل إلى أن يجّن الليل. وعليه تحاشي الغرف المطلة على الزقاق إلا في حالة إطفاء النور. حرص أشد الحرص على الالتزام بذلك، ولكن حينما يخلو البيت وتعوي في صمته الوحشة، يتسلل إلى نافذة الدنيا وصباح الأزقة المشمس وبشرها ليعب من الضوء والضجيج والوجوه ما يصبره على انتظاره المجهول.

* * *

أتتبع روح الفتات الهابط من سماء سقفي المنخور.. تب.. تب. وقع وجدته لعبةً أزجي بها الوقت. أرهف السمع وأحاول تخمين أمكنة السقوط التي تخطئ جسدي المظاهر للجدار الأعرض، البعيد عن الباب، لعبة ممتعة حقاً أقضي بها النهار الذي يكتظ بالنساء اللواتي تخيط لهن عمتي الأردية. أحياناً تجذبني ضجتهنَّ. لم أجد الرغبة في التقدم بجذعي الأعلى مسافة ذراع لإلقاء نظرة من خلال أقرب طاقة، فباستطاعتي تخيل المشهد بشكلٍ تفصيلي. يتحلقنَّ في طرف الباحة حول ماكينة عمتي المنهمكة في الخياطة، والتي تخطف بصرها خلسةً بين الفينة والفينة الأخرى إلى الطاقات الأربع. بمقدوري رؤية اضطراب عينيها الزرقاوين في إنصاتها المشتت لما تقوله النسوة اللواتي يتحدثن في الوقت نفسه فيضيع الكلام مندغماً بصوت تشغيل الماكينة المتقطع. أمهات وزوجات، أخوات وعاشقات، أرامل رجالهن قتلوا أو فقدوا في جبهات الحرب أو المعتقلات. أركز أحياناً على أسماء معارف جلبت جثثهم قبل أيام، أو أعدموا في الساحات العامة بسبب هربهم من الجبهات، عن حملات تفتيش وتمشيط تجري في أحياء المدينة. أتجمد رعباً متخيلاً لحظة القبض عليّ.

ـ سيحل دوري عاجلا أم أجلاً.

أقول لنفسي، وضجة النسوة تتخافت مبتعدة، لتتلاشى خلف صوت انطباق الباب. أسقط في الصمت منتظراً وقع التساقط الحميم.. تب.. تب ألاحق الأصداء المخنوقة لروح الفتات. فتترسخ محتلةً فسحة كينونتي. أقتفي أثر الصدى قاطعاً فواصل صمته الأخرس الدوار، أركب جنح الموجة الصوتية المكتومة الآتية من أزمنة سحيقة والذاهبة إلى آماد لا متناهية. أبحر في الحالك الممتد من لحظتي.. لنغمة اصطدام الفتات بالأشياء الغاطة في العتمة، وقع نفس ذلك التساقط الرتيب لنتف الثلج وأنا أسير في ذيل قافلة الرجال والبغال الخائضة في حلكة ليل الجبل الأخرس، أوصاني الدليل الكردي بالصمت والصمت إلى حين وصولي إلى قاعدة الثوار البعيدة، فالرجال خليط غير متجانس، من مقاتلين، وجنود هاربين من الجبهات يبغون اللجوء إلى إيران، عائلات مسيحية متجهة سراً إلى الحدود تحلم بالوصول إلى أميركا، مهربي بضائع من المدن إلى القرى المحاصرة، خارجين على القانون، قتلة، رجال مخابرات متنكرين، سياسيين شرفاء وأنذال.. ليس أمامي سوى الصمت وإطاعة أوامر قائد القافلة الذي لم أستطع تشخيص ملامحه بسبب الظلام. كنت أحدق بريبةٍ في الوجوه الملتحية، بحواجبها الكثة المضفية على الملامح المتصحرة مزيداً من القسوة. قسمات أراها على لهب القداحات المتراقص وهم يشعلون سجائرهم في الدروب البعيدة عن ربايا الجيش. يداخلني الشك كلما عبرنا جادة مبلطة، أو مضيقاً خطراً يمر من تحت مواقع الجنود، ومما زاد قلقي سقوط السائر أمامي ونحن نسير على حافة وادٍ إلى عمقه السحيق ولم يصدر منه سوى شهقة فزع تلاشت في الهوة، وبرغم إخبار قائد القافلة فقد أمر بعدم التوقف لخطورة المكان، وعندما ألححت في السؤال عن مصيره، التفت نحوي هامساً ببرودة أعصاب:

ـ إنه جوار ربه الآن.

تلكأت في خطوي ذهولاً.

ربت على ظهري قائلاً بخفوت:

ـ امش..امش، لم تر شيئاً بعد !

قلت لنفسي وأنا أحث الخطى:

ـ إلى أين أمضي في المجاهل هذه بصحبة بشر لا أفهم لغتهم؟. 

أي مجهول يتربص بي بين الجبال الوعرة التي أشار صوبها شيخ وسيم، أشيب الشعر. كنا نقف في حديقة بيته الفسيح، بمدينة ـ كفري ـ بساحاتها المقصوصة العشب، المرتبة على شكل مستطيلات، تفصل بينهما دوائر مزروعة بشجيرات الروز والقرنفل وأقفاص حديدية كبيرة فيها غزلان زاهية بعيونها الواسعة المحدقة نحو وقفتنا باطمئنان. كان يشير محدداً مسار القافلة التي ستأخذني بعد ثلاثة أيام. وقتها كنت لا أستطيع الربط بين ثراء الرجل وثوار الجبل، لكنه في اليوم التالي ونحن نخوض في حوارٍ متشعب حول كردستان والثورة الكردية التي اشتعلت في العام 1961 في عهد عبد الكريم قاسم، و اتفاقية ـ 11 آذار 1970 ـ أراني صوراً تعود إلى الستينيات يظهر فيها فتياً، بملابس البشمرگه بصحبة ملا مصطفى البرزاني، وجلال الطالباني، وصوراً كثيرة مع جموع من المقاتلين ببنادقهم البرنو والسمينوف القديمة، وقاماتهم الناحلة، وضحكاتهم الجامدة على الورق الصقيل القديم، أطلت التحديق في الصور مفكراً بمصائر بشرها الشاخصين أمامي بهيئاتهم قبل عشرين عاماً. وعندما رفعت رأسي، وجدته يبتسم:

ـ تتساءل عن مصائرهم؟

أومأت بالإيجاب. 

ـ منهم من قتل بعد أيام من التقاط الصور في المعارك، ومنهم من مات لاحقاً ومنهم من أصبح وزيراً، أو مهاجراً، أو تاجراً، أو سكيراً، أو متسولاً، أو جلاداً يقود مفارز خاصة لاصطياد الثوار، أو أساتذة جامعات، أو كتاباً وشعراء، ومنهم من قضى معدوماً، أو تحت التعذيب في الزنزانات. هكذا يا ولدي هي الحياة !!!

عرفتُ لاحقاً أن ذلك الشيخ هو ـ عطا الطالباني ـ. كانت زوجته صامتة ترمقنا بعطف، وتعد لنا أطيب الوجبات. سمعت لاحقاً أنها قتلت أيضاً برصاصة طائشة وهي فوق سطح البيت تستطلع معركة بين الثوار وقوات الجيش داخل المدينة. 

ـ سترى العجب من أقرب الناس، ستطل على البشر وتتعرف عليهم بعمق. ستذهل مراراً ورفيقك يضم قطعة خبز في ظرف عصيب، أو يجبن في لحظة حاسمة أو يزاحمك في الأكل واللبس والشراب. دع عنك أحلام الثورة النقية وشرف مقاتليها فهم ليسوا أنبياء.

سأتذكره طوال أيام الجبل، وما قاله يتكرر تماماً، وأنا أصلاً غير مؤمن بالثورة والسلاح، لكنها الحرب وتلك الليلة المهولة التي قضيتها في ملجأ شقي والقذائف الإيرانية تتساقط حولي حتى انبلاج صباح المذبحة. زحفت في الغبش بين الأجساد المجزرة والمذبوحة والصارخة بأيديها المقطوعة وأقدامها المهروسة. عدت ليلاً في القطار الصاعد من البصرة وقلت لزوجتي:

ـ جئتك من الموت.. ولن أعود.

ولم يكن لدي سوى حل واحد هو الالتحاق بثوار الجبل. 

أخوض في ذيل القافلة قادماً من المجهول وسائراً نحوه. ألزم صمتاً قبرياً، متتبعاً الكتلة الدامسة المتحركة أمامي. تجتاحني رغبة عارمة في البكاء، أحرزها بعناء، فتحتدم في نفسي بارح الأشواق وتلقيني إلى مسافات حزن قاتم، ووجه محبوبتي السمراء مضيئاً ينبثق من أغوار الظلام، من صلادة الصخور، من وحشتي، من وقع الثلج الخافت، وهسهسة احتكاك بنادق المسلحين بالملابس الفضفاضة. قسماتها الشاحبة، المأخوذة بصرخة يأسٍ خرساء تجول في أرجائها لحظة وداعها وهي تقف خلف باب البيت نصف الموارب، ووجه ابني ـ كفاح ـ الضاحك يمد رأسه ملاحقاً خطوي المبتعد باتجاه ضجيج سوق الخضرة القريب.

* فصل من رواية» الإرســــي» التي صدرت عن دار «الدار» في القاهرة العام 2008.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة