هدى مرمر*
صدرت رواية «مؤنس الملك» للكاتب والفنّان التشكيلي والنحّات المغربيّ ماحي بينبين عن دار هاشيت أنطوان نوفل (2019)، وقد ترجمها أدونيس سالم ببراعةٍ إلى العربيّة عن الفرنسيّة (Le Fou du Roi, Editions Stock, 2017). يقول الكاتب في نبذة روايته العاشرة: « ولدتُ في عائلةٍ شكسبيريّةٍ بين والدٍ عاش طوال أربعين عامًا في خدمة الملك، وشقيقٍ أُبعِد إلى سجنٍ من سجونه. عند باب القصر، وقف والدي وكان عليه أن يختار. وقد اختار سموَّه. تخلّى عن زوجته وأولاده، وترك شقيقي لمصيره، لتعيش عائلتنا طوال 20 عامًا مسكونة بألم الغياب. ما حجّة مؤنس الملك؟ وما حجّة الوالد الذي فيه؟
خطّ ماحي بينبين روايته في محاولةٍ للتصالح مع والده؛ هو الذي لم يناده «بابا» من قبل، يكتب في الإهداء «إلى أبي». ورث موهبة الحكواتيّ عن جدّه، مؤنس الباشا الكلاوي، ووالده، مؤنس الملك الحسن الثاني. ويقول في إحدى مقابلاته بأنّه يودّ أن يكون مؤنسًا لقُرّائه – وهو ما نجح بالقيام به من خلال الصفحات المئة والثلاث والعشرين من هذه الرواية -.
يتقمّص ماحي بينبين شخص والده الفقيه محمّد بينبين، فيسمح له منفردًا بقصّ حكاياه في البلاط الملكيّ؛ فيما يجلس ماحي بين الحضور يصغي لتفاصيل الحياة هناك خلف الأسوار المهيبة والمُهابة. يعذرُه تارةً متفهّمًا قدَره كمؤنسٍ ضاحكٍ وفقيهٍ دينيٍّ ومستشارٍ أدبيٍّ للملك الحادّ المزاج: «حين يكون سيدي في مزاجٍ هادئ، يرمي لي فتاتًا من الوقت أتلقّفه كالمتسوّل، وأحتفظ به بين يديّ المضطربتَين، فأُحوّل الفتات إلى نثراتٍ من الذهب الثمين أُقدّمها بتواضعٍ إلى عائلتي.» وذلك من دون أن يغيب عنه لومه للأب الذي اختار هذا القدر، لا بل وتبرّأ من كلّ من أعاق تأديته هذه الأدوار المقدّسة. «مهما أراد المرء أن يهرب من قدره، إلّا أنّ القدر يُدركه ويردّه بخبثٍ ليعيش كلّ ما هو مكتوبٌ له.»
أمّا الشقيق المُعتقل في سجن تازمامارت، عزيز بينبين، على خلفيّة انقلاب الصخيرات عام 1971، فيبحث عن والده فور تحريره لأنّه يؤمن بأنّ المحبّة تُحيي القلوب في حين أنّ «الكراهية تُعمِل سمّها في قلب صاحبها قبل أن تصيب الآخرين، فتهدُّه وتنهشُه، وتقتله ببطء.»
للرواية أهمّيتها في تأريخ فترة حكم الملك في ستّينيّات القرن الماضي وحتّى نهايته، إذ رافقه المؤنس مدّة واحدٍ وثلاثين عامًا «ليل نهار في مدن المملكة كما خارجها، وذلك حتّى وصلنا إلى المرحلة الحزينة الحاليّة التي يوشك فيها سيدي على مفارقتنا.»
يزجّنا الكاتب في دهاليز البلاط حيث نتعرّف إلى شخصيّاتٍ مثيرةٍ من أفراد حاشية الملك وأبرزها الطبيب والموسيقيّ والقزم ورئيس الخدم والمُبصّر. كما يُرينا بعَينَي ولسان راويه الفصيح ذو الذاكرة المدهشة تفاصيل عن مناكفات ومغامرات وروتين هذه الشخصيّات وديناميكيّات تفاعلاتهم وانفعالاتهم الدراميّة. يُعاني المؤنس من تفضيل الملك له كما من فقدانه الحظوة بعد اعتقال ابنه، ويعيش منعزلًا قليل الأصدقاء. «كيف يقاتل المرء نظرةَ غضبٍ، أو تلميحًا قاتلًا، أو همسًا يتوقّف حالما يَمُرّ؟»
يقول ماحي بينبين في حديث له أنّه «في هذه الرواية، قرّرت أن أمنح الكلمة لوالدي. أفسحت له المجال كي يدافع عن نفسه؛ ويتحدّث عن جراحه ومأساته..» معتمدًا على تسجيلات بصوت والده ينقل فيها تفاصيل حياته في القصر حيث تمتّع منفردًا بالسلاح الأكثر فتكًا غي المملكة: سلاح «أُذُن الملك» :» فالثناء على حسنات شخص ما أو القضاء عليه رهين بتلميح بسيط أُدرجه في جملة عابرة. وملاحظة واحدة كانت تكفي لزرع الشكَ في ذهن سيدي. الوقت في وسط كهذا ضيّقٌ جدًا ولا أحد يكلَف نفسه التدقيق في تفاصيل الأمور.»
يروي «مؤنس الملك» سيرته بأسلوب الحكايات الساحرة المنبثقة من قصص ألف ليلةٍ وليلة. يسعى إلى أن يطيل ليل الحكايات ويستبقي القارىء متأرجحًا برشاقةٍ ما بين قصّةٍ وأخرى، معتمدًا لغةً شاعريّةً وحميميّةً سرديّةً سلاحُها ضمير المتكلّم أنا. يسحر القارىء بماتريوشكا حكاياه. يحكي ليتفهّمه المتحلّقون حوله ولا يحاكموه، ويناشدهم إنقاذ بقايا رمق آخر قصصه من النسيان. فهو أفنى عمره خادمًا وفيًّا للملك؛ وقايض كينونته برضى شهرياره في قفصٍ ذهبيٍّ برّاقٍ بينما قبع ابنه خمسة عشر عامًا في سجن تازمامارت الموحش.
«كانت كلّ حكايةٍ تغذّي أخرى، حقيقيّةً أو مختلقة، فتجري عبر متاهةٍ من التخيّلات.»
ينبع صدق الرواية من حدّة ألمٍ تراجيديٍّ متأصّلٍ في هذه العائلة الشكسبيريّة. يبوح ماحي بينبين بما صدّع طفولته وعائلته من دون أن يكون في الصورة. كان طفلًا شاهدًا على المأساة ولم يُذكر في الرواية سوى مرةً واحدةً من دون اسم. ولعلّه تكلّم عن شخصه حين قال عن الفنّانين: «إنّهم فريدون، ومرهفو المشاعر، وسعداء ظاهريًّا إلّا أنّهم يعانون ألمًا قديمًا جدًّا في الروح، وذوو حساسيّةٍ مفرطةٍ إلى حدّ المرض، تتحكّم بهم عزّة نفسٍ لا حدود لها، أقوياء وضعفاء في آنٍ معًأ.» وبهذا الوصف يتماهى ماحي مع والده، ويلتقيان على الورق بعد أن فرّقتهما الحياة في روايةٍ تنطلق من وتنتهي إلى آخر أيّام الملك.
- كاتبة لبنانية