بمقدور المتابعة المتخففة من وباء “التمنيات” وما يتجحفل معها من أوهام متورمة؛ التعرف على ما اكتسحته هذه اللعنة من مساحات وعلى شتى الجبهات في المشهد العراقي الراهن. فالغالبية العظمى من الآراء والخطابات وطفح البوستات والتغريدات والاناشيد والايقاعات والهرولات، لا تحيد عما حدده لها ذلك الحنديري الاوسع انتشارا في كرنفال حنديرياتنا الوطني، ولم يبخل عن المشاركة الواسعة في هذا الحفل قطاع واسع من المنتسبين لنادي “الافندية”، من الذين وجدوا بموجة الاحتجاجات الاخيرة، كل الحجج والذرائع لاطلاق واسقاط كل انواع واشكال التمنيات والهلوسات، على واقع وجد نفسه مبهوتا وحائرا أمام كل ذلك العنفوان والهياج. لا احد بمقدوره فصل الانسان عن احدى اهم خصائصه (الخيال) والتي تشكل الاساس لابداعاته وابتكاراته، غير ان ما ينسجه من “تمنيات” وبنحو خاص في حقول السياسة والفكر، يتحول الى كارثة احيانا عندما تستخف بشروط واقع لا يستسيغها جملة وتفصيلا. ويمكن اقتفاء اثر ذلك في العديد من محطات العراق الحديث، عندما دفع العراقيون أقسى وأشد الفواتير جراء ذلك الاصرار في التعاطي البعيد عن الحكمة والمسؤولية.
كما اشرنا فان أكثر اشكال “التمنيات” فتكاً تصدر من نادي “الافندية”، لما في جعبتهم من مواهب في مجال رصف الديباجات والعبارات والاصطلاحات القديمة منها والحديثة. يغريهم على الامعان في ذلك، ما انحدر اليه المجتمع (افرادا وجماعات) من ناحية الثقافة والوعي، وفقدان القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، وسط ضخ اعلامي وتعبوي تقبع في قعر أولوياته الاهتمام بأمر المعلومة والحقيقة ونقلها للمتلقي، وهذا ما اشار اليه المتخصصون في هذا الحقل “يصعب اكتشاف الاخبار الكاذبة عندما يشرعنها الاعلام، بمنح صانعيها منبرا، ويصبح الاعتراف بكذبها اصعب عندما تتوافق مع معتقداتنا أو عندما تقدم بطريقة خطابية مؤثرة”. لا يحتاج المتابع للشان العراقي الى جهد كبير، كي يكتشف حجم الاحتفاء بمثل تلك “التمنيات” والاستقبال منقطع النظير لها، من قبل قطاعات اجتماعية واسعة ومتنوعة الاهتمامات، لا لشيء سوى كونها تستجيب لرغباتها، وتجيد دغدغة عقدها وغرائزها المتدنية والانفعالية. مثل هذه الخفة في التعاطي مع واقع يزداد التباسا وعتمة، لن يفضي لغير الاغتراب اكثر فأكثرعما تهدده المخيلة من اهداف وتطلعات عادلة ومشروعة، اشد ما تحتاجه في مثل هذه المنعطفات هو التخفف منها، واسترداد القدرة على التعاطي مع صخرة الواقع كما هي لا كما نتمنى أن تكون.
لن نجافي الموضوعية والانصاف عندما نعد العراق الحديث؛ وطناً للتجارب الخائبة والمتكررة. مصائر لا يمكن فصلها عما هو متداول ورائج من بضائع وسكراب مناهج وخطابات وشعارات وقيم، حيث تعجز فيه اقوى الميكرسكوبات الالكترونية من العثور على شخص او جماعة شط ذهنها في لحظة ما لتقديم اعتذار أو محاولة لتقويم ما خلفته تلك اللعنة من خراب ودمار. لا شيء سوى الاستعداد الدائم للانزواء “بعد وقوع الفاس بالراس” ومن ثم انتظار مرور العاصفة، كي يقبضوا على اللحظة التي تتيح لهم فرصة اعادة تدوير ما يجيدونه من حنديريات متعددة الوظائف والاستعمالات. أما لماذا تبقى بورصة الحنديريات مزدهرة على تضاريس هذا الوطن المنكوب..؟ فذلك ما يجب تقصي علله وجذوره فيما اورثتنا اياه اربعة عقود من الهيمنة المطلقة لـ “جمهورية الخوف” وأكثر من عقد ونصف من تلقف ورثتهم لاسلاب حقبة الفتح الديمقراطي المبين…
جمال جصاني