حرية التعبير التي نتحدث عنها تتعلق بمفهوم حداثي ولد مع بدايات عصر النهضة وحقب التنوير وما رافقها من ثورات صناعية وعلمية وقيمية، مثل سنامها الأبرز الثورة الفرنسية في العام 1789 والتي شقت الطريق لاحقاً وبعد محطات مريرة ومخاض عسير؛ الى الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948، والذي يعد اليوم معياراً واساساً لاستقرار الامم وازدهارها. هذا العنوان (حرية التعبير) هبط على مضاربنا بعد أن عصفت الأقدار العابرة بالمحيطات؛ باقطاعيات ذلك الكائن الخرافي الذي احتكر لنفسه فقط، كل ما يتعلق بالحريات واشكال التعبير، وهذا ما اختصرته العبارة المشهورة (اذا قال فلان… قال العراق) والتي تحن اليها غالبية المخلوقات المسكونة بهلوسات التحول الى رمز وقائد ضرورة على هذا الحطام البشري والقيمي الممتد من الفاو لزاخو. عندما نحاول اقتفاء أثر هذه النعمة العظيمة (حرية التعبير) على عراق ما بعد “التغيير” سنصطدم حتماً بتجلياتها الفعلية على أرض الواقع، فمن مئات المطبوعات ومثلها من الفضائيات والاذاعات والمنصات والمواقع الالكترونية وغير ذلك من وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، اضافة الى ما اعيد تدويره من نقابات ومنظمات مهنية وذلك الطفح الهائل مما اطلق عليه بمنظمات المجتمع المدني واخواتها من مؤسسات وهيئات ذات عناوين وتسميات حداثوية رنانة؛ سنجد انفسنا أمام مفارقة تثير العجب، لا سيما عندما نعجز عن العثور على من يمثل منها نواة لمشروع تهدهد فيه تطلعات الاحرار من بنات وابناء شعوب هذا الوطن القديم، والتي انتظرت طويلاً مثل هذه الفرصة للتحرر من عصور العبودية والوصاية والاذلال.
ما الذي جرى لمثل هذه المنحة الاممية (الحرية وحق التعبير عن الرأي)..؟
ببساطة يتم مصادرتها بشكل ممنهج ليعود الوضع الى ما اعتدنا عليه من “ثوابت” هذه الامة التي لم تصل لسن التكليف الحضاري، وفقاً لتقديرات سدنتها واوصيائها، الذين يعدون ما جرى من تشرذم ولصوصية وانتهاكات فاضحة لبعضنا البعض الآخر وباقي تجليات الفوضى؛ كنتيجة لهذه الحرية الوافدة والمارقة. لذلك كله نجدهم يشمرون عن فنون تشريعاتهم وقدراتهم على البطش وارهاب الآخرين كي يعودوا بالرعية الشاردة الى حيث الاصطبلات الآمنة لـ (حرية التعبير)..!
يدعي أولي الامر الجدد وعبر ممارساتهم العملية والنظرية، والتي لن تنتهي طبعاً بمشروع قانون جرائم المعلوماتية والمزمع التصويت عليه من قبل البرلمان (تضمنت فقراته عقوبات تصل الى السجن ثلاثين عاماً وغرامات تصل الى 50 مليون دينار)، وأشباهه من مدونات لتكميم الاقلام والافواه وما يتبختر من فرمانات “مجلس قيادة الثورة” المنحل دستورياً والفعال عملياً؛ بكون ذلك ينطلق من حرصهم الشديد على المتلقي من جرعة الحرية الزائدة وما ينتج عنها من عواقب على عقول وهمم خمدت لأكثر من الف عام وعام. هكذا يتم التعاطي أو بعبارة أدق الالتفاف على أهم ما تضمنه دستور ما يفترض انه العراق الجديد. لقد تطرقنا مراراً وتكراراً الى حاجتنا الماسة كعراقيين من شتى الرطانات والهلوسات والازياء الى (حرية التعبير) بكل اشكالها وتجلياتها؛ بوصفها السبيل المجرب لاسترداد العقول والضمائر لعافيتها وحيويتها التي تقلصت وجفت وتشوهت بعد هذا الاغتراب الطويل. كما ان التجربة القصيرة من محطات تاريخنا الحديث المضيئة؛ قد كشفت وبما لا يقبل الشك من ان العراقيين يقدمون أفضل ما لديهم من مواهب وقدرة على الخلق والابتكار مع الحرية، وأسوأ وأقبح ما ابتلوا به مع التبعية والعبودية والاستبداد.
جمال جصاني
اصطبلات حرية التعبير
التعليقات مغلقة