الثمانون شاعراً

شهد القرن الخامس الهجري نهضة فكرية شاملة، وتقدماً علمياً ملحوظاً، على الرغم من اندلاع أربعة حروب كبرى فيه. وعزا البعض ذلك إلى سببين اثنين أولهما ظهور أكثر من (80) شاعراً وعالماً ومؤرخاً ومنشئاً من الطبقة الأولى. وثانيهما انتشار المدارس الرسمية التي يحاضر فيها كبار العلماء، ويتخرج منها الطلبة، على وفق نظام صارم، ومنهج محدد، وسنوات دراسية كافية.
كان هذا القرن الذي تقاسمت فيه السلطة الدولتان العباسية والفاطمية واسطة العقد في حقبة صعود الحضارة الإسلامية في الشرق. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تكون معظم الإنجازات التي حفظتها لنا المصادر العربية والأجنبية قد حدثت في تلك الحقبة.
غير أن من الغريب أن يكون ثمانون شخصاً فقط من (الفحول) عاشوا في عقود متفاوتة من هذا القرن هم الذين صنعوا تلك النهضة. فلدينا في بعض محافظات العراق ما يفوق هذا الرقم مرات عديدة، دون أن يبدو عليها أي تقدم فكري أو عمراني أو اجتماعي على الإطلاق!
بل إن عدد الشعراء المسجلين في إحدى هذه المحافظات بلغ (80) شاعراً بالتمام والكمال! ولكن أوضاعها انحدرت من سيئ إلى أسوأ. ونخرت النزاعات العشائرية والفئوية جسدها الغض، حتى باتت عرضة للتمزق والفوضى. هذا عدا عما فيها من الكتاب والأدباء وأساتذة الجامعات في مختلف الاختصاصات العلمية والإنسانية.
وقد لا تصح المقارنة إذا ما علمنا أن من الثمانين فحلا الأولين كان ابن سينا والغزالي وعمر الخيام والخازن وأبو العلاء المعري. وهؤلاء جمعوا إلى موهبة الشعر علوم الطب والفلسفة والفقه والنحو والفلك وغير ذلك من علوم الأولين!
أما جامعات تلك الأيام فلم تتجاوز في حجمها وعدتها حجم مدرسة ثانوية للبنين في أيامنا هذه! ولكن تلك المدارس كانت أكثر فعالية من جامعاتنا بعشرات المرات. وقد عني ببنائها والإنفاق عليها جماعة من الوزراء والولاة مثل نظام الملك والبيهقي ونصر بن سبكتكين .. وسواهم من رجالات تلك الأيام! ولكنها كانت ذات تقاليد (أكاديمية) صارمة، لم ينشد طلبتها سوى وجه العلم، ولم يبتغ أساتذتها غير وجه الحقيقة. وكانت الدولة تنفق عليها بسخاء ليس له نظير. حتى أن المدرسة النظامية التي بناها الوزير السلجوقي نظام الملك عام 459 للهجرة ببغداد تمتعت بإنفاق مالي قيل أنه كان كافياً لوضع الجيش العباسي على أعتاب القسطنطينية!
إن أي جامعة من جامعات العراق تبدو مؤهلة اليوم لتخريج آلاف الشعراء والأطباء والمهندسين والفلاسفة .. لكن هذه البلاد لا تستطيع الاستغناء عن أطباء الهند ولا مهندسي الصين ولا شعراء أوربا ولا كتاب أميركا!
علينا أن نعيد تجربة القرن الخامس الهجري، ونسعى لخلق هؤلاء الثمانين، ومدارسهم العلمية الرصينة، إذا ما أردنا أن نضع أقدامنا على سكة السلامة. وليس ذلك بالأمر العسير أو المتعذر على أية حال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة