رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
الحلقة 44
إعادة التنظيم والتسلح
*وهل كانت هناك أية خلافات حول صياغة وتنفيذ هذا البرنامج السياسي والعسكري، أو حول توزيع المهام على قيادات الأجنحة؟
– نعم كانت هناك خلافات حتى بطريقة ذهابنا الى داخل الأراضي التركية. كنت أنا ونوشيروان نرى بأن نتريث قليلا ونتخذ هذا القرار بروية وحكمة، ولكن علي عسكري والدكتور خالد كانا يريدان إستعجال الأمور، وإعتقدا بأن إيران ستسمح لطاهر علي والي وسيد كاكة بالعبور من أراضيها وأن السلطات هناك ستغض الطرف عن ذلك.وهنا دعني أكشف لك بعض الأمور: كانت الجولات التي يقوم بها نوشيروان والملازم عمر من جهة، وكذلك جولات الدكتور خالد و الشيخ حسين من جهة أخرى قد أثارت الحس القومي لدى أبناء شعبنا، وشعر الناس بأن الثورة إندلعت فعلا وباتت تقف على أقدامها و أنها ماضية بطريقها نحو المزيد من التطور والنهوض، وأن إستسلام كل تلك الأفواج من البيشمركة للنظام لم يثن من عزيمة الآخرين ولم ينه تواجد البيشمركة في سوح القتال، وهكذا إنتعشت آمال الجماهير بطلوع شمس الحرية وبإستمرارية الثورة.كما أن تلك الجولات أدت الى ظهور تنظيمات الإتحاد الوطني في معظم مناطق كردستان وإلتفافهم حول رايته كقوة طليعية ومفجرة للثورة والنضال يمكن للشعب أن يعلق آماله عليه.
ومن جهة أخرى كانت إحدى منافع تلك الجولات هي الإتصال بالتنظيمات السرية داخل مدن كردستان وحث المناضلين بالداخل لتنظيم صفوفهم والإلتفاف حول الثورة، وتم الإتصال أيضا بمجموعات من الناس لكي يهيؤوا أنفسهم لوقت الحاجة حين تصلنا الأسلحة، وفعلا أبدى العديد من هؤلاء المناضلين القدماء إستعدادهم لتلبية نداء الثورة عندما تحتاج إليهم، كما تم الإتصال بسكان جميع القرى الحدودية لكي يواجهوا مخطط البعث بالتهجير والتعريب وأن يخوضوا القتال لإفشال تلك المخططات العنصرية.وكانت مطالب الناس هي تأمين السلاح فقط بما فيها المضادات الجوية، وللأسف إستولت جماعة القيادة المؤقتة على 10 رشاشات دوشكا المضادة للطائرات.
* في ظل كل هذه الإنتصارات رافقت المسيرة أيضا العديد من الإخفاقات والهزائم خاصة في تعاملكم مع جماعة البارتي من جهة، ومع النظام البعثي من جهة أخرى، فهلا تحدثنا عن تلك الهزائم؟
– بالطبع واجهتنا الهزائم.فمع كل تلك الإنتصارات واجهنا هزيمتين كبريين، الأولى هي إستشهاد شاسوار جلال (آرام)، والثانية الهزيمة العسكرية التي واجهت مجموعة من البيشمركة في المعركة المعروفة بـ(ملحمة دشتيو). فقد كان مقررا أن يأتي سيد كاكة و سعدي كجكة ومعهما قوة كبيرة من البيشمركة البسلاء من سهل أربيل الى مقر القيادة بقرية نوكان الحدودية، وفي طريق مرورهم بمنطقة قلعة دزرة تعرضوا لهجوم من قوات عسكرية تابعة للنظام البعثي. وكانت هناك تلة تشرف على ساحة المعركة تسيطر عليها قوة من البيشمركة تحت قيادة سيد كاك، ولكن سيد كاكة فر من ساحة المعركة وتخلى عن موقعه وإستولت قوات الحكومة على التلة وحسم الأمر لصالح العدو، وحاولت قوة بقيادة سعدي كجكة الهجوم لإستعادة التلة فأستشهد بعضهم أثناء الهجوم المضاد. ولو لم يهرب سيد كاكة من المواجهة لم تكن تلك الكارثة تقع، وفي المحصلة أستشهد سعدي كجكة ومجموعة من أبطال البيشمركة معه وتم أسر أعداد أخرى منهم جعفر كاكة أسود الكويي والذي أعدم فيما بعد مع مجموعة أخرى من الشباب.عموما كانت القوة تتألف من 30-40 فردا لم ينج منهم سوى 10-12 ، منهم الأخ قادر عزيز إبن شقيق الشهيد سعدي كجكة. وكان قادرا يبكي وينتحب على إستشهاد عمه وأصيب بحالة نفسية سيئة للغاية، وفي الحقيقة لم أكن أعهد من شاب ثوري مثله أن تنهار معنوياته بهذا الشكل المرعب لمجرد أن الشهيد هو أحد أقربائه، فالإستشهاد في سوح القتال وأثناء الثورات أمر طبيعي وفي مثل هذه الحالات يجب أن يتحلى البيشمركة بالشجاعة والصمود لا أن يفقد توازنه وتنهار معنوياته.وللأسف لم نحقق في موضوع تخاذل سيد كاكة وهروبه من ساحة المعركة، وكان يجدر بنا أن نحاسبه على ذلك لأنه تسبب بإستشهاد كل هذا العدد الكبير من البيشمركة.
وحلت علينا كارثة مماثلة في منطقة (ماوت)، حين جاء كاكة خان معيني شقيق سليمان معيني ليلتحق بنا في منطقة ماوت وكان معه 10 رفاق آخرون، لكنه أستشهد هو ومن معه هناك.
العلاقة مع كرد إيران
* هذا يعني أنكم كنتم على علاقة مع كرد إيران؟
– نعم كنا على إتصال بهم.كان كاكة خان معيني ممثلا للعصبة الثورية لكادحي كردستان إيران، ومجيئه الينا شكل بداية لناء العلاقة بيننا، وخاصة بين ثوريي كردستان وبين الإتحاد الوطني، لأننا شعرنا بوجود فراغ وتباعد بيننا وساعدنا هو لسد الفراغ الحاصل، فصوت الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا) كان خافتا جدا حينذاك، ولذلك كانت علاقتهم معنا ليست قوية بما فيه الكفاية، حتى حين أسسنا الإتحاد الوطني إستشرت الدكتور قاسملو، ثم أرسلت له رسالة أرفقتها ببيان تأسيس الإتحاد، وقد إستحسن الأمر وأبدى دعمه وتأييده لخطوتنا، لكنه عمليا لم يقدم لنا أية مساعدة تذكر.
* وهل كانت مقراتكم آنذاك داخل كردستان العراق أم في الجهة الإيرانية؟
– كنا في نوكان بالطرف الإيراني وكنا نهييء أنفسنا للرحيل حين داهمنا الإيرانيون وأرغمونا على ترك المنطقة فورا وطلبوا منا أن نذهب الى “توزلة” وأرغمنا هناك أيضا بالذهاب نحو (دولة كوكة) وكانت قرية مهجورة وواجهتنا فيها مشاكل عديدة خاصة لجهة إنعدام المؤن والأرزاق ولم يكن المكان مناسبا لإقامة المقرات. وكنا في تلك الفترة قد توصلنا الى قناعة بأن نذهب نحو بهدينان، ولكن حدث خلاف حول هذا الخيار، ومع ذلك إتفقنا أن نوجه رسائل بيد علي عسكري والدكتور خالد وطاهر علي والي الى السيدة حمايل خان والدة مسعود والشيخ محمد خالد وإدريس البارزاني الذين كانوا جميعا في منطقة (كرج) قرب طهران ونطلب منهم التدخل من أجل ضمان عدم التحرش بنا في المنطقة لأننا ذاهبون الى هناك لتسلم أسلحة سنستخدمها من أجل مواجهة العدو.وفي الوقت ذاته أرسلت إيران بـ(مينة كوبة) لكي يستكشف نوايانا وما نحن عازمون عليه، وبدا أن هدفهم الأساسي هو التجسس تحت غطاء التفاهم معنا حول إمكانية فتحهم للطريق أمامنا للعبور من أراضي إيران، ولكنهم ماطلوا كثيرا بذلك وتبين هدفهم الحقيقي وهو التجسس علينا..
* وهل رضيتم بالدعم الإيراني؟
– حول العلاقة مع إيران كنا على خلاف، فجماعة كاك نوشيروان لم تؤيد بناء مثل هذه العلاقة، ولكن رفاقا آخرين كانوا لا يمانعون، خاصة شمس الدين المفتي والدكتور محمود عثمان وآخرين من اللجنة التحضيرية للحزب الديمقراطي الكردستاني الذين إلتحقوا بنا عند المثلث الحدودي ثم جاءوا وفتحوا لهم مقرا قربنا بقرية نوكان.وكان هؤلاء يرون أنه من أجل دعم كفاحنا المسلح والصراع مع جماعة القيادة المؤقتة فإننا بحاجة لبناء العلاقة مع إيران الى حين أن تستقر أوضاعنا ونقوى ثم لن نكون بحاجة اليهم. كانت وجهة نظرهم أن نستغل المقترح الإيراني، وهكذا قررنا الإبقاء على إتصالاتنا معهم وعدم قطعها، ولكن حين أردنا دخول أراضي إيران من قرية (دولة كوكة) فوجئنا بقصف مدفعي إيراني شديد ضدنا ولم نستطع النجاة منه إلا بشق الأنفس.فعدنا أدراجنا. وبعد تعرضنا للقصف بدا بعض المدافعين عن العلاقة مع إيران بالتبرم، منهم طاهر علي والي وسيد كاكة فقلت لهم “هذا تصديق لما حذرناكم منه سابقا، فإيران هي إيران الشاه وهي دولة محتلة لكردستان لايمكن الإعتماد عليها”، ثم إلتفت إليهم وقلت “لا تتبرموا ولا تحدثوا مشكلة، فهذا القصف يجب أن يكون درسا لنا جميعا”.
ووقع حدث آخر في تلك الفترة، وهو تجديد علاقتنا مع الأخوة في العصبة الإيرانية وتحقق ذلك عن طريق الأخ صلاح الدين مهتدي، الذي أرسل إلينا أيضا برسالة يحدثنا فيها عن أوضاع كردستان الإيرانية وأرفقها بمبلغ خمسة آلاف دينار وكان هذا المبلغ مساعدة كريمة منه في يوم كنا أحوج ما نكون إليه في ظل ظروف صعبة للغاية.
* حسنا، هل بقيتم على الحدود أم إنصرفتم الى مكان آخر؟
– قررنا التحرك، وأخذنا طريقنا من خلف قرية (دولةكوك) وصعدنا نحو جبل قنديل وسط ثلوج كثيفة وأمضينا يوما كاملا في جو صقيعي وصلت الثلوج فيه الى حد الركبة، فلم نجد بدا سوى أن ننقلب الى الأسفل وصادفنا هناك عددا من بيوت الشعر لبعض الرحل، ثم وجدنا باليوم التالي منطقة عشبية تسمى (دولة نية) إسترحنا فيها قليلا ثم واصلنا الطريق. وسبقنا الدكتور خالد والشيخ حسين وحوالي 200 بيشمركة معهما بالوصول الى منطقة الشيخ رشيد لولان أي منطقة برادوست وكانوا يراسلوننا للإستعجال بقدومنا إليهم، ونحن في تلك المنطقة العشبية عقدنا إجتماعا أبدى نوشيروان فيه رأيه بصراحة وقال “ليس محبذا أن نخلي هذه المنطقة جميعا، فإما نذهب أنا ومام جلال الى هناك ويبقى علي عسكري وبعض من رفاقه هنا، أو يذهب هو ومن معه ونبقى نحن هنا”، فقالوا “حسنا، إبقوا أنتم هنا ونحن سنذهب”. هكذا بقينا أنا ونوشيروان والدكتور محمود وذهبوا هم مع علي عسكري وملازم عمر وطاهر علي والي وآزاد هورامي وآخرين الى تلك المنطقة ومجموعهم حوالي 700-800 شخص، منهم 300 مسلح والبقية بغير سلاح.
وأقول للحقيقة والتاريخ أن الدكتور محمود عثمان عبر عن رأيه بصراحة ووضوح قائلا “ان قلق الدكتور خالد وعلي عسكري وطاهر علي والي تجاه جماعة القيادة المؤقتة هو قلق حقيقي وأن وجودهم بقربنا سيشكل خطورة كبيرة علينا، صحيح أننا حاولنا أن لا نصطدم بهم، ولكني أقول لكم بصراحة سيعترضون طريقكم وسيقاتلونكم، ولا داعي لكي تخدعوا أنفسكم بأنهم لن يتحرشوا بكم، فلن يترددوا للحظة من تأليب العشائرالكردية بتركيا وجواسيس جهاز المخابرات التركية (ميت) وجهاز السافاك الإيراني عليكم، فإذا تحرشوا بكم وقاتلوكم يجب أن تردوا عليهم بالمثل وإلا سيبيدونكم جميعا”..فقال الرفاق وخصوصا علي عسكري وطاهر علي والي “دع هذا الأمر لنا فنحن نعرف ماذا سنفعل وكيف نتصرف معهم”. وهكذا مضوا وبعد عناء طويل وبشق الأنفس إجتازوا الأراضي الإيرانية ووصلوا الى منطقة (كيلة شين) ومن هناك عبروا مرة أخرى نحو الأراضي العراقية وتعرضوا فيها لقصف جوي مكثف من الطائرات العراقية وأصيب العديد منهم وإضطربت أحوالهم كثيرا جراء القصف.ثم إلتحموا بقوات الدكتور خالد قرب ( دولة كوستة )وللأسف الشديد حين مضوا معا تعرضوا الى كارثة (هكاري) التي كانت ضربة قاصمة للثورة الجديدة، وكانت جريمة كبرى سجلها التاريخ الكردي ضد جماعة القيادة المؤقتة بمشاركة فاعلة من النظام العراقي المحتل وبمساعدة جهازي الميت التركي والسافاك الإيراني وراح ضحيتها المئات من خيرة قادة وبيشمركة ثورة كردستان والإتحاد الوطني.حتى الأسرى لم يسلموا من التصفية، وأعادت تلك الكارثة الى أذهاننا ماحصل سابقا من قتل إبراهيم عزو ورفاقه من الأسرى بكهف (بافي) على يد نفس الزمرة، ولكن هذه المرة راح ضحية تلك المؤامرة الدنيئة أبطال كبار لثورة كردستان وهم علي عسكري والدكتور خالد وحسين بابا الشيخ الإيزيدي الذين أعدموا داخل سجنهم وقتل العشرات الآخرون هنا وهناك من خيرة شباب البيشمركة.
كارثة هكاري
* ماهو تقييمك لما حصل في هكاري؟
– لقد عبر الكتاب الذي أصدره كاك نوشيروان مصطفى عن موقفنا وتقييمنا لما حصل، ومع ذلك فلي بعض الملاحظات أود أن أتطرق إليها هنا وأهمها أنه كان بإمكاننا أن ندرأ عن أنفسنا تلك الكارثة، وخاصة إذا لم يرتكب بعض الأخطاء التي سأجملها كالتالي:
أولا: لم يكن ضروريا أن يتوغلوا بعمق الأراضي التركية بهذا القدر ويقتربوا من مناطق العشائر ومرتزقة جهاز الميت ومقاتلي القيادة المؤقتة، فقد كانت نواياهم العدائية واضحة ومتوقعة.
ثانيا: كان يفترض بهم أن لايكونوا حسني النية تجاه جماعة القيادة المؤقتة وأن ينخدعوا بمعسول كلامهم وبوعودهم الكاذبة، وكان يفترض أن يستمعوا الى تحذيرات الدكتور محمود حين نبههم بأن تلك الجماعة ستكمن لهم وتعترض طريقهم وستؤلب عليهم العشائر ومرتزقة جهازي الميت والسافاك بهدف القضاء عليهم، كان يفترض عليهم أن يحتاطوا ويحسبوا الحساب لكل شيء وأن لا يغامروا بدخول عمق الأراضي التركية دون أية مبالاة بالمواقف السابقة لتلك الجماعة.
ثالثا: أثناء عقد إتفاق المصالحة مع تلك الجماعة، كان يفترض بهم أن يفكروا في تلك اللحظة بكيفية الإنسحاب من ساحة المعركة وخاصة أنهم كانوا منتصرين فيها كما سمعنا من بعض الرفاق، وكان يفترض أن تلتحق القوة التي يقودها الدكتور خالد بالقوة التي يقودها علي عسكري ويلتحما معا ثم يلتجئان الى العشيرة التي ناصرتهم، ولو فعلوا ذلك لكان بإمكانهم الخروج بسهولة والنجاة بأنفسهم.
رابعا: إنفصلت القوة التي قادها علي عسكري عن بقية الرتل، وكنا نشعر بأن خيانة حصلت لتحقيق ذلك، وفعلا أعدمنا أحد الخونة فيما تاب الشخص الآخر المشارك بالخيانة. وكان يتفرض أن تكون القوتان معا أو أن تفصلهما مسافة قصيرة عند المسير، عندها كان بإمكانهم أن يتغلبوا على كل كمين يصادفهم في الطريق، وحينها لم تكن قوات علي عسكري تنفصل عن قوات الدكتور خالد ولن تحتاج لدخول عمق الأراضي العراقية والتي تعرضت فيها الى ضربة شديدة ما أدى الى وقوعهم بأسر جماعة القيادة المؤقتة ثم إستسلام مقاتليهم للحكومة العراقية.
خامسا: الخطأ المضاف هو أن القوة التي مع الدكتور خالد و الملازم عمر كان عليها أن تتقصى خبر علي عسكري وقواته قبل الإنطلاق بالمسير على سبيل التأكد والإحتياط. فحين وصلت أخبار علي عسكري إليهم كان هؤلاء قد سلكوا طريقا آخر ووقعوا في كمين العدو، وهذا لم يكن تصرفا حكيما منهم خاصة فصل القوتين بعضهما عن بعض، بالإضافة الى أخطاء صغيرة تكنيكية أخرى يعرفها الرفاق الذي كانوا ضمن تلك القوات.
* وماكانت تداعيات تلك الكارثة وتأثيراتها على معنويات قيادة الثورة؟
-على رغم من هول الكارثة التي وقعت والمخططات الخبيثة للأعداء، لكن معنويات القيادة لم تهتز خصوصا قيادة و كوادر الإتحاد الوطني الذين أصروا على تجاوز المحنة والإصرار على مواصلة النضال والتضحية بالنفس.وهنا أريد أن أسجل للتاريخ موقفا رجوليا من نوشيروان مصطفى في ظل تلك الكارثة. فبعد وقوع الكارثة وعلمنا بتفاصيل ماحدث لرفاقنا داهمنا حزن شديد للمصير الذي لاقوه ونحن في بداية الثورة، وكنا مازلنا في منطقة (دولة نية) ومجموعنا 42 شخصا ولدينا بندقيتين فقط مع 14 من البيشمركة غير المسلحين، لم نكن نملك الزاد ولا المال، ومروحيات إيران تقصفنا من جهة، والمدفعية العراقية من جهة أخرى، أي أننا كنا تحت نيران عدوين حاقدين. جاءني نوشيروان وطلب مني أن نتمشى قليلا، وبادر بسؤالي “هل تصدق إذا قلت لك بأنني أتمنى الموت قبلك، وبأنني على إستعداد كامل لأرد عنك أية رصاصة توجه إليك، لأنني أحبك وأقدرك الى أبعد ما تتصور”؟ قلت له “نعم أنا متأكد من صدقك” قال “إذن إسمع مني إقتراحا وأرجوك أن تحققه لي، أنت تعلم بأن معظم القادة السابقين للثورات الكردية والى حد هذا اليوم حين واجهتهم الهزائم والصعاب هربوا من ساحة المواجهة وتركوا شعبهم فماتوا خارج وطنهم، فدعنا أنا و أنت لا نقتدي بهم ونبقى داخل وديان و جبال كردستان نحيا فيها أو نستشهد فيها، فإذا ضاقت بنا هذه الجبال والوديان لأي سبب كان نذهب الى المدن ونقود فيها النضال السري حتى نموت داخل وطننا أو نحقق النصر لشعبنا”. أعجبني قوله، فقلت له “صدقني بأنني أفكر مثلك، وثق بأنني لن أفكر أبدا بالإنهزام أو مغادرة الوطن، بل سنواصل النضال معا وسنخطط للنهوض مجددا وإستئناف القتال حتى يتحقق لنا النصر أو الشهادة”.
تحت ضغط الجوع والقصف الإيراني واصلنا مسيرنا نحو قمة جبل قنديل للوصول الى منطقة بالكايتي، وفي مساء متأخر وبعد تعب شديد وجو قارص البرودة وصلنا الى قمة الجبل، وكان أمامنا ربيئة للجيش العراقي فلم نستطع المرور وكشف أنفسنا وسط الثلوج البيضاء ونحن رتل يتكون من 42 شخصا، فكان علينا أن نمضي نهارنا ساكنين حتى يحل الظلام وننزل من الجبل لنواصل المسير.
عند المساء هممنا بالنزول، ولكني تدحرجت للأسفل فأمسكت ببندقيتي وشددت على عصاي أستند عليهما وفوضت أمري الى الله، وصادفتني تلة صغيرة أوقفت تدحرجي فإستندت عليها و لملمت نفسي و إذا بالدكتور محمود ينزل نحوي مسرعا خوفا من أن أكون قد أصبت بأية جروح ليداويني كطبيب، ولكن الحمدلله لم يحصل شيء. ومن هناك سلكنا الطريق وعند حلول نهار اليوم التالي وصلنا الى واد يدعى (خيلاب) ذاب الثلج فيه وبدأ العشب الأخضر يطل برأسه، وكنا في شهر مايو/أيار، وحين وصلنا الى هناك لم يكن لدينا شيء نأكله، فبدأ البيشمركة بالبحث بين العشب والأزهار عن شيء نأكله وإذا بهم يأتون بفطر ضخم لم أر مثله في حياتي، وأتذكر أن بولا معروف البرزنجي الذي كان يرافق الدكتور محمود طبخه لنا وأكل منه 11 شخصا حتى الشبع!
كان هناك بعض البيشمركة العارفين بالمنطقة فبدءوا مع قادر خبات يبحثون هنا وهناك عن شييء ينفعنا في تلك المحنة وخاصة أن قرى المنطقة قد تعرضت للتهجير ولم يبق فيها أحد، وبعد البحث وجدوا بعض الأواني والقدور التي أخفاها الناس هناك وأفادتنا كثيرا لإعداد الطعام.وبهمة من قادر خبات أيضا جلب لنا 14 خروفا ومعزة تبرع بها أحد الأخوة من أصحاب المواشي بكردستان الإيرانية فأكلناها، وأمضينا يومنا هناك ثم توجهنا نحو وادي (سرشيو) والذي يقع خلف وادي (خيلاب) وهو قريب من منطقة بالكايتي. بعد وصولنا الى هناك خرج نوشيروان على رأس مفرزة صغيرة لإستطلاع المنطقة فصادف هناك رجلا أبلغهم بأن يعودوا أدراجهم لأنه لمح نيرانا موقدة بوادي (سرشيخان) ويشك بأنهم من الجحوش المرتزقة أو من أفراد الجيش العراقي، لكن قادر خبات تطوع لإستجلاء الموقف، وحين إقترب نظر إليهم بالمنظار فعرفهم فورا بأنهم من البيشمركة ويقودهم أحمد مولود بقوا هناك معلقين على أمل أن يأتي يوم وتمر القيادة من قربهم، وهذا ماحصل فإلتقيناهم في اليوم التالي وكنا فرحين جدا لرؤيتنا 18 من بيشمركتنا وقد نجوا وإلتحقوا بنا.