عبدالكريم كاظم
يصوغ الشاعر نصوصه الشعرية الجديدة بمنتهى الرهافة حتى يبدو للقارئ وكأنه يصغي لأغنية فيروزية تفتح باب التأمل من جديد كقوله في هذا النص المعنون: (انطباع: يندر أن تمر الأحزان في طرقها المعرشة)، على أن رهافة النص لا تتخذ شكلاً لغوياً مألوفاً بل تتخذ شكل عرض لمقطع حياة متصل بالتجارب، تحكمه اشتغالات أو تأملات وهواجس الشاعر، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن الشاعر أراد أن يعالج النص الشعري من خلال رؤيته الجمالية الخاصة ليس فقط ليعطي وصفاً لهذه التجربة الموازية للحياة، كما أسلفنا، بل ليصل إلى تأمل الحياة ـ التجربة ذاتها، وبهذا سنتلمس رهافة النص وسمات هذا المعنى الجمالي الذي انبثقت عنه التأملات أو الهواجس المتماهية مع فنية الكتابة الشعرية ومعانيها ودلالاتها، لنقرأ هذه الالتقاطات: (أيتها الكلفة، وجهك سيفنى فيما يتواصل قرع باب أملك) (اغماضة عين: طوت نهار حزننا) (وصلنا إلى الجدول لكننا وجدناه جافاً) (الصباح: يهجر التماعاته المنيرة) .
إن العبارات والجمل أو الشذرات التي تم توظيفها في كتابه الشعري (في بئر العالم) يراد بها التشديد على شيء أساسي، يتعلق بطبيعة التجربة المتصلة بالكتابة الشعرية، وقد يكون اختيار أو وضع عنوان هذا النص أو ذاك بـكلمة (قصيدة) أو (شذرة) له ارتباط بسياق التجربة نفسها، ولعل في ذلك أيضاً إشارة رمزية وجمالية إلى ما للمعنى المتصل بالعنوان من وظيفة لغوية موازية، إذن النص الذي يكتبه حسين يؤكد هذه السببية الموازية للرمز والمتماهية مع اللغة، ويمكننا القول أيضاً أن غياب عناوين النصوص أو وجودها له علاقة بالمعنى الذي يعيد للدلالة اشتراطاتها الفنية المكثفة والتي تحمل في الوقت نفسه عناصر تكوينها اللغوي أو الرمزي الموازي لتلك السببية المشار إليها سلفاً، لنتلمس البعض من هذه الإشارات: (حملت معولي وخرجت إلى العالم/ أردت أن أسهم بتحطيمه/ لكنه كان محطماً ولم يحتاج إلى معولي) (الآن لدي القليل من الوقت والقليل من المعارف ويكاد كيس غفراني أن يصل إلى الصفر) (كنت نائماً في فم المرارة وحلمك الذي يتخذ من البرق غصناً ينمو في اتجاهات متعاكسة).
ثمة تشكيلات لغوية فنية يدخلها الشاعر على نصه، إيجازاته، ألفاظه والتقاطاته الشذرية تندرج، إلى جانب لغته أو إلى فنيتها الأكثر جمالاً، هو المتعلق برؤيته للعالم أو لموضوع الموت وبتجربته التي يستعرضها شعرياً أو ما يمكن إدراجه في إطار الزهد الذاتي الموازي لأسلوب الشاعر وفلسفته الحياتية إلا أنه من الصعب التفريق بين الذات وزهدها خصوصاً فيما يتعلق بنصوصه وكتاباته الشعرية السابقة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار النقدي موقف الشاعر من العالم والموت والحياة فسيبدو واضحاً موقفه الذاتي وهذا ما يجعل النصوص قريبة من القارئ، ويظهر ذلك بوضوح في قوله: (برغم واحديته يتعدد الموت) وكذلك في هذه الشذرة: (أيها النهر بوسعنا أن نرى تمظهرات حزنك ترن في الأبد) وفي قوله هنا: (أحياناً نحتاج إلى قرن لنفك شفرة البعض)، إضافة إلى هذا النص المحمل بذاتية مفرطة: (أنا قاتل متسلسل: قتلت حسين، الطفل، الصبي، الشاب، ودفنته في مكان ما، وماضٍ من أجل قتل حسين علي يونس الكهل والشيخ) .
لا يفرد الشاعر في كتابه الشعري الجديد سوى جمل موجزة وهذا ما يفسر تعلقه بالمعنى الذي يقدم أشكالاً مغايرة تتصل بلغته الشعرية نفسها وهذا الأسلوب يمكن أن يعطي للقارئ إمكانية افتراض وجود شكليين في مواقفه من الكتابة: الأول، يتصل بالتجربة أما الثاني فيقوم باستعراض التجربة كأنموذج لهذا الشكل من الكتابة الذي يقف في الوقت ذاته مع جمالية المعنى، وقد لمسنا ذلك في هاتين الالتقاطتين: (الفرات: من عينيه تتساقط كتب الكارثة) (على الأرض تدحرج برميل صبرنا) إضافة إلى هذه الشذرة التي تستحضر أو تستعيد الروائي الساحر غابريل غارسيا ماركيز: (قصيدة: رحل ماركيز وجر معه ضوء العالم) .
شذراته الشعرية، في كتابه هذا، أدخلت في فلكها أو تأملها الكثير من الدلالات، ليس من منطلق القول الشعري وبراهينه وحسب بل كألفاظ، وهذا يعني بأن الشاعر أدرك خصوصية المعنى المقاربة لبراهين القول الشعري، أي أنه أدخلها بشكل لغوي غير مباشر من خلال إهمال المعنى المباشر، وبهذا يمكن القول، بأن الشاعر مصيب في المعنى غير المباشر حتى وإن بدت شذراته، في البعض منها، واضحة في المعنى، هذه هي إحدى صيغ المقاربة اللغوية الخفية لموقف الشاعر من اللغة الشعرية نفسها، وفي مقابل ذلك نجد الشاعر يدخل رمزية الدلالة من موقع جمالي معرّفاً بها بأنها رمزية لازمة لمقدمات لغوية وأنها كالألفاظ ذات طبائع فنية تدعو القارئ إليها وتوصله إلى تلمس طبيعة الكتابة الموازية للتجربة، خصوصاً تلك المتمثلة بنصه المعنون: (الشجرة المحترقة والبرق: أحب النسر الذي يسبل جناحيه، العالم الذي يغرق، الأغاني الحزينة، الفرحة، الليل والنهار، المرأة المحطمة، المزاريب بعد ليلة ماطرة، حريتي، الأفلام القديمة، صوفيا لورين، جواد سليم، قرارات صوتك كلها، منحدراتك، صمتك، رقتك، يأسك، فيروز، ماركس، نهاراتنا المعتمة).
هناك الكثير من المعاني تأتي من لغة حسين الشعرية اللامتوقعة، مثلما هناك دلالات تتناسل، في النص، بلا هوادة وإذا أردنا أن نقف، في قراءتنا النقدية، عند هذه الحالة سنحتاج إلى عبارة الجرجاني: (المعاني مرتبة في النفس)، وهذا يعني أن الشاعر لم يعطي هذه المعاني أهمية فنية وحسب بل ربطها بعلاقة ثنائية تتواصل مع التعبير اللغوي والقول الشعري، وهذا ما لمسنا، إضافة إلى نصه المشار إليه سلفاً الشجرة المحترقة والبرق، في هذه الالتقاطات المثقلة بالإيحاءات الشعرية: (إلى حسب الشيخ جعفر: لقد تعودت على صوت حسب، الذي يكاد أن يكون همساً) (قصيدة: يغادر الإنسان حلمه لكنه يقطنه) (شذرة: الهامش المتن الوحيد على الأرض).
الشعر كمخرج أو خلاص لغوي لا يستدل عنه إلا في توحد صدقه اللغوي بزهده اللفظي، أنه مخرج للوقائع والأحداث، للمعاني والدلالات أو التجارب والمحن، أنه نوع من الحلول اللغوية لشتى المعضلات الكونية والفلسفية والذاتية، أنه شكل من أشكال الانفعال المعرفي المتصل بالحواس المفسرة للغة الشعرية وقدرتها للقبض على المعنى بفرضية امتثال النص للقراءة وميولها الجمالية المجردة، والشعر الذي يكتبه حسين يسير باتجاه تنظيم الحواس وإعادة صياغة الفكرة بمنتهى الإيجاز، ولعل هذه المقاطع المختارة تبين مدى الترابط الجمالي بين الإيجاز اللغوي من جهة وبين الصياغة الشعرية للفكرة: (قصيدة: أحب قارة صمتك) (قصيدة: الحياة ضربت براعم اليأس وخربت أغصان كرمتها) (قصيدة: الظلمة أكثر حناناً من الضوء) (قصيدة: شعاع شمسك عبر قرناً من الزمن) (قصيدة: على الأرض يتدثر حزنك وأنت تشطف وداعاً دنساً).