مارغريت اوبانك
عندما كتبتُ افتتاحيّة العدد الأوّل لمجلّة بانيبال، في بداية العام 1998، لم أكن أتخيّل أبداً أنّي سأحتفل بعد مرور سبعة عشر عاماً بصدور العدد 50 للمجلّة. لقد تمّ انجاز هذا العملِ الضّخمِ المكوّنِ من خمسينَ عددًا بجهود طاقمٍ متفانٍ صغير، يسندهُ حشدٌ لامعٍ من المترجمين، والمحرّرين المساهمين والمستشارين، والنقّاد الأدبيّين. وبالطبع، جميع الكتّاب.
يختلفُ وضع عالَم الأدب العربي اليوم اختلافاً شاسعاً عمّا كان عليه عندما بدأنا. وكذلك عالم الترجمة الأدبية إلى الانجليزيّة قد تحوّل أيضاً. المزيد من الناشرين يقومون بنَشر العديد من الأعمال الأدبية العربية المترجمة. لكن هذا لا يعني أن مهمّة بانيبال قد أُنجزت. بل الأمر على العكس من ذلك.
تمتلكُ دور نشر الكتب معايير وأفكاراً وبرامج وتوقعات تجاريّة وميزانيات خاصّة بها. فهي تبحث عن كتاب يحقق نجاحاً تجارياً، يكون من أكثر الكتب مبيعاً، مع اهتمام بما هو آني ليجتذب القراء، كما انهم يفضلون، الكتّاب العرب الّذين يتحدّثون اللغة الإنجليزية – أو حتى يكتبون بها.
بينما تعدّ المجلة كشاهد ومتابع للمشهد الأدبي الحيّ في العالم العربي. إذ تقوم المجلة بترجمة الأعمال العربية المنشورة حديثاً في كافة البلدان العربية، لنقدّم للعالَم الناطق بالانجليزيّة ثراءً وتنوعًا غير منقطعين في المشهد الأدبيّ العربيّ الراهن.
قبل الشروع في استعراض مواد الملف الرئيسي للعدد عدد 50 والمعنون “الكاتب والسجن”. تفتتح المجلة صفحاتها بقصائد للشاعر الكرديّ السوريّ الشاب الموهوب مروان علي من ديوانه “غريب، لا شيء عنكِ في الويكيليكس”. يليه مقطع طويل من رواية رشيد بوجدرة الجديدة “ربيع” وهي تصفية حساب أدبيّة حازمة لا هوادة فيها مع ما يسمى “الربيع العربي”. وهناك مقالتان بارزتان: الأولى، شهادة أدبية للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب، عن قراءاتها الأولى وكيف أنها صارت كاتبة، والأدباء الذين تأثرت بهم. والمقالة الثانية، مقالة عن وضع الأدب العربي المترجم إلى اللغة الصينية، كتبها لنا المترجم والمستعرب الصيني شوي تشينغ قوه.
وفي باب مراجعات الكتب، تكتب منى زكي عن روايتي “مطر حزيران” للكاتب اللبناني جبور الدويهي، و”بيت الديب” للكاتب المصري عزت القمحاوي، بينما يكتب بول ستاركي عن رواية “القوس والفراشة” للكاتب المغربي محمد الأشعري، وأخيراً يكتب الكاتب الباكستاني المعروف عامر حسين عن رواية اللبنانية إيمان حميدان “حيوات أخرى”. ولابد من الإشارة إلى أن لوحة الغلاف، هي تفصيل من عمل للفنان العراقي المقيم في نيويورك أحمد السوداني.
جاء ملفنا الخاص “الكاتب والسجن” في الوقت المناسب، ونحن فخورون بالاحتفال بالعدد الـ 50 لمجلة بانيبال مع شهادات ونصوص لكتّاب هم اليوم من أكثر الكتاّب العرب شهرة واحتراماً. حياتهم ونضالهم شهادةٌ بحدّ ذاتها على حاجة الإنسان الجوهرية لحرية التعبير والتسامح والرفق. نقدم في هذا، أعمالاً لتسعة كتّاب ومراجعة أدبيّة لعمل عاشر، ولا متّسع لأكثر من ذلك. لقد توجب علينا أن نسحب عدداً من النصوص والمراجعات الأدبيّة الأخرى التي كانت مقررة لهذا العدد، حتّى نقدّم للقرّاء عدداً متكاملاً قدر الإمكان. – وقد تمّت إعادة جدولتها الآن للعدد 51.
يقدم العددُ كاتبين ليبيّين، كلاهما اعتُقل على يد نظام القذافي في الحادثة الشنيعة التي جرى فيها تطويق واعتقال مجموعة من الصحافيين وحبسهم لمدة عشر سنوات، بين الأعوام 1978-1988. يكتب جمعة بوكليب، “لا أستدعي شيئاً وأتذكر كل شيء”، متتبّعاً أثر التغييرات في فكره على مدار تلك السنوات. أما أحمد الفيتوري فيكتب قائلاً “لم يكن هناك يومٌ عاديّ”، ويكشف أنه عندما تمّ الإفراج عن المجموعة المكوّنة من إثني عشر صحافياً على نحوٍ مفاجئ، ألقى القذافي الذي احتجزهم، كلمة في حفل إطلاق سراحهم.
الشهادتان اللتان يقدّمهما كاتبان عراقيان تكشفان عن إجراءات مختلفة تماماً للاعتقال منذ السّتينات وحتّى فترة حكم صدّام حسين في السبعينات.
كان فاضل العزاوي طالباً جامعياً عندما سجن لمدة ثلاث سنوات أيّام الانقلاب البعثي في شباط 1963 والّذي أطاح بالحكومة الثورية لعبد الكريم قاسم. المقتطف المنشور هو جزء من عمل أدبيّ قيد الكتابة، يلقي فيه العزاوي نظرةً إلى الوراء على الفترة التي اعتُقل فيها، وقد هدّدوه بمحاكمة عسكرية عرفية، وأرسلوه إلى محاكم مختلفة جيئةً وذهاباً بين بغداد والبصرة، وقد “فقد إيمانه الطفوليّ الساذج القديم بما يسمى العدالة والإنسانية” واكتشف أنه “لم يعد حتى الموت نفسه يخيفكَ، وقد رأيتَ كل هذا الموت في حياتك”.
في عام 2003، نُشرَت باللغة العربيّة مذكراتُ المهندس المعماري العراقيّ المعروف رفعة الجادرجي وزوجته العراقية الكاتبة بلقيس شرارة، وهي مذكرات تروي قصّة اعتقاله في كانون الأول العام 1978 في ظروف مروّعة على يد المخابرات العراقية والإفراج المفاجئ عنه عندما احتاجه صدام حسين لتصميم مركز للمؤتمرات. هذه المذكرات تمّ استعراضها في مجلّة بانيبال عدد 24 (2005)، ويسعدنا أن نقدّم هنا مقتطفات من مذكراته، والتي يصف فيها الجادرجي السلوك الإرهابي لنظام الحكم اللاإنساني، والذي يتضافر فيه ضيق المساحة، والقذارة والقمل والتعذيب على تدمير إنسانية الإنسان.
سعود قبيلات وهاشم غرايبة وهما كاتبان من الأردن، اعتُقلا في أواخر السبعينات بسبب آرائهما السياسية. قصتان قصيرتان لسعود قبيلات تعكسان تجربته في سجون السلطات الرسمية الفاسدة وعن اتخاذ القرارات بطريقة تعسّفية وسوريالية. ويقدّم هاشم غرايبة شهادة بشأن اعتقاله لمدة سبع سنوات في السجون الأردنية المختلفة، وخلالها “لم أكف لحظة عن التفكير بالهرب من السجن، وكنت أحلم دائماً بالطيران”، ما ساعده على البقاء على قيد الحياة هو تعلّمه الاستغراق في أحلام اليقظة “عندما أغمض عيني كنت أخرج من العزلة، وأغوص عميقاً في لجة الكون، فأشعر أنى فوق كل التزام، وأقوى من أي أكراه. وأني حر طليق”. نقدّم أيضاً فصلاً من روايته “القط الذي علمني الطيران” التي يكثف فيها تجربة السنوات التي قضاها في سبعة سجون، كل سنة في سجن مختلف.
ويتأمل الكاتبان المصريان شريف حتاتة وصنع ابراهيم، فترة اعتقالهما. حتاتة الذي اعتُقل بسبب أرائه الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية عام 1948. يفتتح نصه المؤثر والمعنون “السجن الحربي” بإلقاء القبض عليه في (تشرين الثاني) عام 1953 وحبسه العنيف، مكبلاً بالسلاسل والأصفاد، في “الصمت القاتل” للحبس الانفرادي. وقد اعتقلَ الكاتب صنع الله إبراهيم عندما كان شابًا من عام 1959 وحتى عام 1964، وفي مقتطفات من كتابه يوميات الواحات، يشيرُ إلى أنّ شريف حتاتة كانَ واحداً من السجناء البارزين هناك، حيث كان يمثّل السجناء الآخرين في التعامل مع مأموري السجن. في ذلك السجن قرر صنع الله إبراهيم أن يصبح أديباً، “جهاز رادار نشط” مخضعاً “كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة، التذكر، القراءة، العلاقات الشخصية، الإصغاء إلى الآخرين”، والكتابة على أوراق السجائر.
اعتُقل الكاتب والصحافي الفلسطيني أسامة العيسة عدّة مرّات على يد السلطات الإسرائيلية. في شهادته التي يقدّمها هنا، يصف اعتقاله في أوائل الثمانينات، أساساً في سجن رام الله الّذي تحوّل إلى مقرّ ياسر عرفات عام 1996، الانتقال من زنزانة الاستجواب إلى زنزانة السجن، التعامل مع قواعد الفصائل الفلسطينية المختلفة داخل السجن، الضرب العشوائي بلا تمييز، والجواسيس المنتشرة في كل مكان.
نختتم هذا العدد بمقالة للكاتبة أوليفيا سنايجي حول كتاب “القوقعة”، وهذا الكتاب شهادة حارقة للكاتب السوريّ مصطفى خليفة عن السنوات التي أمضاها في سجن “تدمر” سيء الصيت، في سوريا.
لقد رحل هذا العالم الذي احتمله كتّاب هذا العدد كسجناء، إلى الأبد. قد لا يدركُ القراء والكتاب الشباب هذا العالم الذي يكتبون عنه، فمعركة القرن الـ 21 ليست معركة يساريين، وماركسيين وديمقراطيين وشيوعيين ضد الديكتاتوريات والإمبريالية. يبدو أن ذلك عالم آخر، عصيٌّ على الفهم، حيث الأصوليون والمتعصّبون الدينيّون لكافّة المذاهب في حالة تصاعد، والديكتاتوريات والبيروقراطيات غير المنتخبة لا تزال تحكم سيطرتها، فيما محاربو الفساد والمدافعون عن حقوق الإنسان الأساسية يلوذون بالفرار. العدد 50 لمجلة بانيبال، المزدحم بهذه النصوص المحرّضة على التفكير لكتّاب من الجزائر ومصر والعراق والأردن وليبيا وفلسطين وسوريا، والذين لم يتوقفوا يوماً عن الدفاع عن الحق في حرية التعبير والتسامح والعدالة الاجتماعية، يوفر رايةً أدبيّة ناجعة، تذكّرنا بأنّه مهما طال التخفي وراء الأقنعة، فان الكفاح سوف يتواصل اليوم.
* نصّ الترجمة العربيّة لافتتاحية مجلّة “بانيبال” العدد 50، كتبتها الناشرة مارغريت أوبانك.
الكاتب والسجن*
التعليقات مغلقة