الورقة الأخيرة

سلام مكي

لم تتبق إلا بضع ساعات وينفد يومها الأول. الهدوء الحذر يكسو الطرقات، الندى ترجل من حصانه مبكراً، لكنه لم يطرق أي باب بعد. بضعة أوراق لشجرة مسنة تحتضن لحاءً أملس وتغفو، القمر ينتظر استيقاظها ليسكب ضوءه على زهرة تختبئ تحتها. الطائر الكئيب ينتظر الفجر ليطلق روحه على المكان، فيغزل منها معطفاً يقيه السأم والملل. كانت تواجه الظلام بمفردها، فكل الأشجار التي تؤثث الغابة، كانت متجمعة في القلب، إلا شجرتها: آثرت العزلة. برغم طراوة ساعدها، تبدو أشد التصاقاً من غيرها. وقبل أن تطوي الصفحة الأولى، سمعت طرقاً خفيفاً. كانت حبات من الرمل، قذفت بها ريح في نوبة غضب. 

– لم لا يجد وسادة غيري؟ جسدي، قد لا يحتمل أية كائنات طفيلية. أنا بالكاد أحمل نفسي. أيها الإله الذي قذفني هنا: امنحني يوماً كاملاً من أيامك، لا أريد أن تنفقني أمي ابتغاء وجه الرمل! أو اقطفني، بريح طيبة مثلك بدل هذا العذاب. 

في غمرة حديثها الصاخب بالأفكار، الصامت كجثة تحترق، كان الرمل قد غزا الأماكن الحساسة منها. والليل، بدا هو كذلك متجمعاً فوقها. وكلما اشرأبت روحها خطوة نحو السماء مال الجسد نحو الأرض بفعل الثقل الذي يزداد كل لحظة. لم يكن نظرها نحو السماء مشتتاً كعادته كل يوم، فقد كانت تحدق بغيمة نحيفة تسلقت منذ الغروب العمود الذي غرزه القمر فوق الشجرة المجاورة.

– سيدتي: أعلم إني حقيرة ولا أستحق أن يمحني أحد ذاته، ولست بذلك القدر الذي يجعلني أفعل شيئاً لنفسي قبل غيري، يمكنه أن يقلب الأشياء المقلوبة أساساً. أعلم ان أمي ستتركني فريسة لأقرب ريح، وأخوتي سيستأثرون بالشمس كلها، ولن أتمكن أن ألف جسدي بخيط منها سوى عندما أسقط. سيدتي: يا من رضعت الأرض من نهدك: أنا حفيدتك، أتضور ألماً ورغبة بالبقاء يوماً. سيدتي: قلبي يكاد يتحرر مني: أأنت مبعوثة الإله؟ هل ستطردين الرمل نيابة عنه؟ 

أنهكها التحديق طويلاً من دون جدوى. أطرقت برأسها نحو الأرض مستسلمة الى قدرها. كان الرمل قد بلغ شغافها القلقة. 

– لم أعد محتاجة الى دقيقة حتى! أفضل أن أتلاشى تحت سياط الرمل ولا يحسب عليّ يوم تائه كهذا. تعال، خذ ما تشاء مني، أنا المخلوقة لأجلك. الآن فهمت.

لم تصدق أن عينيها ستستيقظ مجدداً بعد أن قررت إغلاقهما للأبد، كانت قطرات لاهثة قد دخلتها من دون استئذان، وها هي تخوض الآن معركة مع الرمل. كانت الذرات تتساقط واحدة تلو الأخرى، تقابلها نشوة متأخرة وتحرر لأمل متردد. فتحت عينيها ببطء ونظرت نحو السماء لترى. كانت الغيمة قد حجبت عنها ضوء القمر، قبل أن تطلق ثدييها للعمل. كانت مفاجأة للجميع، فمن غير المعقول ان السماء تمطر من دون مقدمات وفي هذا الوقت بالذات! الكل وقع فريسة الدهشة عداها. رويدا رويدا، بدأت تنتصب مجدداً. الرمل اختفى من فوقها. عادت الى لحظاتها الأولى، نقيةً. 

– كفاك مطراً، لقد تحررت بما فيه الكفاية. 

استمر المطر لدقائق، برغم أن الغيمة ليست حبلى بكل ذلك المطر، بدا سقوط القطرات عليها كأنه طعنات. سمعت صوت جذعها اليائس مرة أخرى، انحنى ظهرها بسرعة أكبر من المرة السابقة. أدركت أنها ميتة لا محالة. أغمضت عينيها بعمق هذه المرة، انتظرت صوت ارتطامها بالأرض، قبل صوت افتراقها عن الأم. قصدتها كتلة مائية كبيرة، يبدو أنها آخر ما تبقى لدى الغيمة، بعدها صمت كل شيء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة