رحلة عاشقة

طاهرة صفارزاده*

ترجمة: موسى بيدج

في الصباح 

رآني الكنّاس 

آتية بضفائري المضطربة و المبتلّة

من سلالم النهر

و كان الفجر خفيًا.

**

مرّة أخرى

عائدة أنا

من نهاية وادي التّفاح

و سلالم النهر الذهبية

و هذا هو التسكع بعينه

الذهابُ

التجولُ

و العودة

و النظر

و النظر ثانية

الذهابُ يلتحق بالطريق

و البقاء بالجمود

في الأزقّة الأولى للحركة

رأيت يدَ القديم العادل

ربَّتت على كتفي الأيسر

فقبّلتُها

و سيجرُّني عطر القبلة وراءه .

**

في الصباح رآني الكنّاس

آخذة معي رسالة إلى مالك

سلّمتُ عليه

فأجابَني بمثلها:

سلامٌ على الأجواء الغائمة

سلامٌ على الفجر الخفي

سلامٌ على الحوادث غير المعلومة

السلامُ على الجميع

من دونِ بائع السلام.

**

كنتُ ذاهبةً صوبَ بيتِ مالك

فصادفتني أزقّة الضّيقِ الثّابتةِ

و غبرةُ النجومِ الرادعة

كان يأتي إلى الأسماع

صوتُ هسهسةِ الجياد

صوت تمتمة موزِّعِ الماء

و صوتُ «تبت يدا …»

لقد سلبوا الشّجر

سلبوا الرّوضة

سلبوا الأذنَ

سلبوا الأقراطَ

لكنهم لم يقدروا

أن يسلبوا جدَّ جدّي

الحُبّ.

**

أنا خارجةٌ عن سيطرة الفُودكا

و داخلةٌ في سيطرة اليقظة

هم قد أشاعوا السّيطرة العدوانيّة

و السّيطرة العدوانية

كانت مصير دارنا

مصيرَ سُكّانها الشُّرفاء .

**

ذلك الفاتح الذي أتى بـ «جبل النور»

إلى المتحف

أتى بالليل إلى مدينتي

أنا قد أوصيت ساكني الدّار

و أصحابها الجُدد

أن يتلفظوا بـ «مساء الخير»

و إلا سيقوم النِّزاع بين السُّكُّان

يجب التلفظ بـ «مساء الخير»

لروحه النّاظرة

له

و لأُمي

المرأةُ ذات الثوب القشيب

فأنا أحبُّ من الأبيض و الوردي

و الأزرق

خليطها

أحب لون اللالون

اللّون الكامل للموت.

**

الأشجارُ صفرٌ

و لا عجب في ذلك

فالفصل ربيع .

وفي أصفهان رأيت شجرة معوجة

و لكنها كانت خضراء و نامية

قرب تلّة الأفغان

كنّا أنا و أنت مليونا

و الأفغان كانوا سبعة آلاف أو ثمانية

فأخذونا أنا و أنت

وقتلونا

و الآن قد عدنا ثانية

و نريد أن نلتقط صورًا تذكارية

على التلة التي متنا عليها.

**

أنا من مذهب المستفسرين

هل إسكندر انتزع

أو أنت سلَّمته

هل الشاري ابتاع

أم أنت بعته إيّاه …؟

كانت ضالّتي حذاء أزرق

و جاءني الاسكافي ببُنّيٍ و خرجت بحذاء أخضر

يتطلب منّا العيدُ حذاءً جديداً

في عيد النوروز هطلت ثلوجٌ غريبة

رأيت في الـ «7 سين» القديم

أصباغ الوجنات تُزغرد

و السين الأحمر الرأس كان صامتاً

يا سيّدات المدينة

حناجركن لم تقترن بالحبّ أبدًا

و إلا ّ لامتزجت هذه الأصباغُبالدموع

و لألقيتن السلام على السين الصامت الرأس.

**

سلام عليكم جميعًا

من دون بائع السّلام

يا هذا الصّمت الواضح

تلك السّاعة الكبيرة الخفيّة

بدقّاتها الغامضة

تحفّز قصائدي

أنا خارجةٌ عن سيطرة الفودكا

و خاضعة لسيطرة الغيب.

**

الألفاظ الرَّنّانة

تشبهُ طُنبورِ قومِ لوط

و كشمسٍ تحبو نحو المغيب

لتتلاشى في التيه و الظلام

و الشاعر هو الشاعر بواقع الحياة

و عليه أن يكون نبض الوجود

فأنت الذي تفخر بالجمال الظّاهر في قصيدتك

هل تعرف شيئًا عن قيمة التّشبيه

هل يدك

كيدِ الألفاظ

مرفوعةٌ صوب الاعتلاء

صوب النّور

صوب ألـ «نّيرفانا»؟

**

العامُ الماضي

كان عامَ موتٍ و رحيلٍ

عامَ صمت الخفقات الكبيرة

الخفقات المرهفة

في هذا الفضاء الأفيوني

ما الذي يجري؟

هذا أنت تسري فيّ

و تلك أنا أجري فيك

كحزن يترفع عن الرّغبات الجّسدية

و هم يروجون لبضاعة الأجساد

كما روّجوا

لشُحِّ اللهفة

لشُحِّ الكرامة

لشُحِّ اللحوم

لشُحِّ الورق

لشُحِّ الإنسان

و أنتم، يا رجالَ الصّحافة

حتّى عندَ وفورِ الورق

لم تمنحونا مقالًا يُضيء

بل كنتم تكتبون الإملاء

عن نماذج رديئة .

**

للمغولِ ملامحُ الليل

و الليلُ له لون المنكوبين

الرسالةُ المنكوبةُ

هي تاريخ أجيال فجّةٍ مُتخمة بالشَّره

تأتي و تذهب

كقهقهةِ المجانين

بلا سبب و من دون جدوى

و عيشها

يشبه الطحالب في الماء

تبدو نشطة

و لكن يستوطنها الركود

هل مازال الإنسان قبليًا

لتتقاذفه اللُّقْمةُ

هل قِصّة البطون المُتخمة

الشفاهِ المطبقةِ

والحناجرِ الصامتةِ

لها علاقةٌ بموضوع الوجود ؟

**

قلت للكنّاس:

ما الأخبار؟

قال: القمامةُ

الوجودُ لا يدخل في حيّز الأخبارِ

ما يعنيني

أين وصل الأقزام

و ما عملوا

و أين هم؟

و لم لا يسمعون

صدى أقدام العائد من الأفق

و الراجع إليه.

**

أنا على مذهب المتيقّظين

و منزلي بين ضفَّتي شارعٍ

يزدحم بأناسٍ معزولين

صوتُ نحيب يأتي من بعيد

كيف تعزل

كلَّ هذه الأرواح الجميلة؟

كيف؟

كيف؟

كيف؟

تبت يدا أبي لهب وتبّ

تبت يدا أبي لهب وتبّ

تبت يدا أبي لهب وتبّ

و هذا الصوت المنبعث

من خارج سلسلة الأصوات

يغور في شراييني

عليك إتّباع هذا السبيل

فما جدوايَ واقفةً

أتمعن في ذلك البلوشي

الذي يتفنَّنُ في مضغ وجباته الثلاث من الحشائش

و صلواته الثلاث

أيتها الشاهدة التي امتزجت

ضفائرها برائحة اللّبن

هل أنت أيضاً

ستلجين يوماً ما باب الحقد؟

هذا الشّكل الآخر للحبِّ

أمّا أنا

فحبيّ لأرض أسيرة

لها وجه يوسف

و صبر أيوب.

**

في حديقة الطفولة

عندما تهبّ الرياح

و يسقط التّفاح

كان القاضي دوماً

يمنح التفاحة الأولى إلى الأخت الصغرى.

**

تلمّسْ نبضي

تراهُ يضجُّ بالوجودِ

و باللهفة للعدل

فالوجود لا يدخل في حيِّز الأخبار

الوجود

كيف الوجودُ؟

التاريخُ

لا يتذكر انبثاق العدالة حتّى

و هل توزيع الظلم بإنصاف

هو التجلّي الوحيد للعدل؟

الشّفاهُ مطبقة

الليلةُ الماضية

شأنها شأن الليالي الأخرَ

قضتها بترنيم «يارب»

حصيرةُ مسجد المتيقّظين

ليست ملاذًا للنائمين

ذوي الأحجام المتناهية في الصّغر

هذه الكائنات المألوفة

وزمرتها

لا تستثني بطون المومسات

من عدوانها

**

لعل إبراهيم ما

في طور اليقظة

كان يوم اثنين المتيقّظين

رأيت فيه أكتافَه المضيئة

و شاهدت ذلك الختم

شاهدت تلك الأكتاف المختومة

و ذلك المنتشي من العشق الإلهي

عند نهاية مزرعة الكروم

سألت العناقيد الميتة

عند عطشكِ ماذا احتسيت من دون الماء؟

هل شربتِ دم الثعالب؟

ليكون هؤلاء المتظاهرون بالنشوة

مجرّد متملّقين و محتالين

و الخمرةُ

عذرٌ ملوثٌ

يُحيي الحفلاتِ التّجاريّة

أينما تذهبُ تراهم منشغلينَ بالحجارة و البناء

و لكن الروح المحلّقة للرّاوي تقول:

عندما تنتهي جنـّةُ الشّدّاد

سينتهي أجلُه.

**

ضجيج المزاد يأتينا من كلِّ صوبٍ

كلُّ فصول هذا الحانوت

عبارةٌ عن مزادٍ

مزاد حقيقيّ

البضاعةُ

جيدةٌ

و الأسعارُ

زهيدةٌ

«يهوهُ» وهب الشّرق للنّهر

و السّبتَ للعاطلين

كلّ أيام الأسبوع عبارةٌ عن مزاد

و لم يسعفهم الوقت لأداء

فريضة «سبت الشكر»

هل لكف الناظر من جدوى

غير قطع موجات تثاؤبه؟

و هل من جدوى لهذا الليل؟

غير أن يصطاد شمس الشّرق المزيّفة؟

**

لأجل الوصول إلى المدينة المبتغاة

هل علينا أن نقبـّل ألفًا من المدن المختلفة؟

عندما لا تهبّ الرّياح

علينا أن نحرّك المجذافَ أكثرَ

السبّاح

لا يليقُ به

أن يموت في الماء

شاهدت ذلك النهر الحزين والمغبون

النهر الذي خطف ذلك السبّاح

و لكن حزني

صخرةٌ كبيرةٌ

لا يتمكَّن من جَرفِها.

**

عند أقدامِ جبل «بيستون»

شاهدتُ نصباً

و غجرياً يبيعُ بطاقات اليانصيب

شاهدت اليد التي ستسقطه يوماً

أنا كالقطاة المحلـّقةِ عند السّفحِ

يجبُ الانطلاقُ صوبَ القممِ

و إن لم يكن الطعام

فهناك الهواء

اجعل هذا الإبريق يبتهج

بمياه النبع النقية

عند السّفح نداء

غناء

و راع

كانت أمّ الرّاعي ماندانا

و هي أمّ الأسباب

ليلة شهادة ورود فارس

ياعشاق الخطّ و اللغة و الشعر الفارسي

كانت ماندانا هي الشاهدة

على عطالتكم و عبثكم

فأنتم قوم الاحتفالات و المهرجانات

و جروحُ روحي

من حفلات آتيلا تنبعثُ.

**

يا كبيرَ الشأن

انهض

حَلـّق

قاطعْ هؤلاء:

أنصافَ المتعلّمين

فنصفهم الآخر .. جبنٌ و عوزٌ

يتقصّدون قراءتك بشكل مُغاير

فالحبّة هي الشّكل الضّامر للوردةِ

و الحاجةُ هي الشّكل الضامر للخوف

لنفترض أنّ النوافذَ قد شُرّعتْ جميعًا

لنفترض أنّ الأبواب قد فتحت

أيّها العبد المُنحني

من ضغط الدّيون و الأقساط

الأقساط

الشّهرية

السّنوية

و الخالدة

هل بقي لديك من الشّموخ

شيئ لتدلّ عليه؟

أو هل تملك صوتًا للغناء

فلكي يطلّ الأقزام من فوق الأسوار

يحتاجون إلى قامات عديدة .

*شاعرة، باحثة و مترجمة. ولدت بمدينة سيرجان (جنوب شرق إيران) العام 1936 و توفيت بطهران في تشرين الأول 2008. بعد إنهائها الدراسة الثانوية في مسقط رأسها دخلت جامعة طهران في فرع اللغة الانجليزية لتتخرج منها بشهادة بكالوريوس.ثم حصلت على الدكتوراه من إحدى الجامعات الأميركية.

نجحت صفار زاده في تقديم لغة شعرية جديدة وأسلوب شعري مميّز، أثار الكثير من النقاش في بادﺉ الأمر، قدمت كتباً قيمة في مجال النقد الأدبي، نقد الترجمة و الترجمة التخصصية و كذلك كتابها القيم بعنوان ترجمة المفاهيم الأساسية للقرآن الكريم. وللشاعرة تسعة دواوين شعرية طبعت كل منها عدّة طبعات. و مما يستوجب ذكره ان أحد دواوين الشاعرة و هو بعنوان «المظلة الحمراء» كتبت قصائدها بالانجليزية أصلاً. من دواوينها الأخرى: الحركة و الأمس، السد و السواعد، طنين في المصب، السفر الخامس، لقاء الصباح، البيعة مع الوعي و رجال محنيون.

* عن مجلة شيراز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة