مازن المعموري
في اللحظة التي يتم فيها الحدث وينطوي تحت قشور الزمن, يصبح خاضعاً لاستدعاء الصورة التي تعيد إنتاجه بشكل مختلف, قد يكون متضخماً لسبب جوهري يمس قيمة التكرار بصفته فعلاً يملك سيرورة متزامنة مع استدعائه, لكنه يبقى أسير نمطه الحكائي, وهو ما يخلق من الصورة سلطة ثقافية تعمل على تمرير خطابها بالطريقة ذاتها التي يتم فيها صناعة الصورة, حين تمر بيسر وتستلم بسهولة لا تقبل الرفض إلا في حالة التكرار.
أجدني أمام تجربة الفنان محمود عبود أسيرَ ذلك الاستدعاء الذي يحول الحدث القديم إلى صورة فوتوغرافية تعيد إنتاج كينونتي كفرد يعيش الأثر, حيث يكون المكان البغدادي فضاء تلتقي عنده المرموزات الصورية, وهي تمارس وظيفتها التخييلية بما يشكل ترتيب الوقائع رسماً موغلاً في البساطة والألفة ويعمق حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل معه, كما هو حال استنطاق فطرة الإنسان الذي أضاع المفاتيح التي تبقيه على تواصل حميم مع الطبيعة, لكنه هنا يشترك في ممارسة تقطيع الصور السحرية للواقعة النصية, وهي تتشكل بتركيب شخصياتها وعناصر بنائها التكوينية, وهي هنا تشرح مبدأين أساسيين هما العرضي والزائل بمقابل الثابت والهوياتي.
إن التجربة التي تحيطنا بالزوال وتعني الوجود الناقص, الوجود كما لو انه نفي مضاعف من أجل التجوهر حول قيمة الرمز الذي يستدعي حضور الممكن في أي لحظة مع الشكل وتركيب عناصره النسبية في كل شيء, حيث الأنا نقطة الراوي ( مستوى النظر إليه بصفته لغة مرئية ) الذي ينطق بلسان الإيماءة والعلامة لشيء غائب لكنه ساكن ورقيق يبدأ بالتدفق من ذاكرة عمياء وبعيدة الغور للحصول على بقعة ضوء من ريشة الفنان ولمسات شعر الفرشاة التي توشح الشكل بألوان المروي له, حادثاً مستعاداً مستمراً وزائلاً.
يرتبط محمود عبود بالطبيعة الأم, وربما كان هذا الارتباط الشديد ملازماً لفكرة الأبدية الخالصة للفردوس, المحكيات القديمة للإرث الشرقي, وبياض مكوناته في الذاكرة الجمعية, الماضي هو الفردوس الذي يشكل الحلم ويطلق العنان للنوستالجيا والحنين إلى البقاء في الرحم الأول, لكنه هنا يملك المبرر لاستحضاره مع بغداد وحواريها وشناشيلها وأمكنتها القديمة الثاوية في رماد الكينونة الممحوة على عتبات الرسم بصفته خلاصاً من عجلة الزمان وطيات النسيان.
الشخصيات المتضخمة المستلقية على سطوح المنازل والبيوت الطينية وشرفات ما تبقى من الخشب الهندي الذي يزين شرفاتها, وإطلالات بناتها الجميلات كفاكهة جاهزة للتذوق, بل يمكننا لمسها إذا ما أردنا ذلك في لحظة حسية مشتهاة, لا تقبل التردد وهي تحيطك بنظرات صباحية أو مسائية ناعسة, وفوق ظلال زرقة الليل يشهد القمر صفاء نوم عميق قبل أن ينبلج الفجر مع خواء درابين المحلات البغدادية إلا من طراطيش السكارى أو خروج الآباء إلى أعمالهم مع خفقان نجمة الصباح وأصوات طقطقة قوري الشاي العراقي في باحات المنازل أيام الصيف مع ترداد تكبير بعيد لصلاة الفجر. المشاهد البغدادية وغنج بناتها المدللات بأحجامهن الكبيرة حاملات شيف الرقي, تمنح فكرة استدعاء ذاكرة المكان كما لو انه مستحيل هو جوهر واقعيته السحرية, كما إن حجم العمل الكبير يتيح للناظر المشاركة في تمثيل المروي لدعم غرائبيته, واستنطاق الحدث القديم بسيرورة تنتمي للحاضر أكثر من الماضي, لهذا نجده يميل إلى التعامل مع الحدث الذي يبني شخصيات حقيقية ذات تأثير مجازي عاطفي يحيلنا إلى الأصل مثل حكاية الفنانة زكية جورج وقصة حبها لصالح عزرا الكويتي عام 1937, وهي تستلقي على راديو غرام طويل مادة يدها اليسرى إلى إحدى بنايات بغداد القديمة وسط ساحة واسعة ويجلس أمامها الفنان صالح ماسكاً آلته الموسيقية مشدوداً لصورتها البهية في قلب السماء الصافية .
انطلاقاً من هذه التصورات للمكان, يعتمد الفنان محمود على صياغة العجائبي والغريب من خلال تفصيل مركبات عناصر هوية الحدث ومكوناته التي تعتمد ترتيب الشخوص على وفق سردها الحكائي, إعادة تمثيل ما محته ذاكرة لم تعد صالحة للاستعمال, مثل ما يحدث مع إعادة رسم ( بنت المعيدي), حدث يعمل على إنشاء مخيال شعبي اقترن بحكاية ضابط انجليزي وفتاة عراقية قيل إنها من مدينة الحلة أو السماوة أو احد أرياف مدينة أربيل, تلك الحكاية التي انتشرت كواقعة تحاول تمرير ثقافة الامتزاج مع الآخر وقبوله حتى وان كان مستعمراً ومن ديانة مختلفة في ثلاثينيات القرن الماضي. إن إعادة تسجيل ذاكرتنا الجمعية بصورة سحرية يخفي تحت عباءته رسالة إنسانية تؤكد على مراجعة الذات والهوية الوطنية وكأنه يمارس دور الحكواتي الذي يريد من الناس أن ينظروا بعين الحنين والحب وقبول المختلف, لأننا لم نكن قبل ذلك سوى مجتمع يحتوي الثقافات ويعمل على تذويبها تحت هوية إنسانية لا تقبل العنف والطرد كما يحصل الآن, وهو ما جعل الفنان محمود عبود يتابع أسلوبه الواقعي في الرسم وينمي قدراته الحرفية بتأثير المدرسة الروسية التي تؤكد على الرصانة في التنفيذ والأداء والتقنية, لكنه يبتعد عنها في الروحية العراقية الأصيلة, حيث يمزج الماضي بالحاضر, المرأة العراقية بردائها العصري وهي تطير على ظهر حشرة الدعسوقة فوق مدينة بغداد كما لو إنها تعيد حكايات ألف ليلة وليلة, عبر تمثيل العجائبي وإزاحة الارتباك الواقعي للحياة العراقية, انه التعلق بالكمال المطلق لجماليات الصورة التي تثير الشعور بالغربة والانقطاع عن الواقع المرير, لذا نجد الفنان وقد آثر التحليق في فضاء المخيلة الفنتازية ليسافر إلى الأمكنة ذاتها التي تركها ويراها بعين الطائر المحلق, فأعمال محمود فهمي تدغدغ الروح الحية للمكان العراقي, مستنفراً الطاقة التعبيرية للرسم والمخيال التركيبي للصورة, كما لو انه وضع الأشياء في غير مكانها, أو هكذا يصبح الفن إعادة ترتيب خاطئ للواقع ولعب فرح لإزاحة الدليل واستبدال الأماكن الموضوعية داخل فضاء العمل الفني.