أحمد المديني يدعو النقاد العرب إلى مسح نظاراتهم

إنتقد عدم مواكبتهم «الحداثة»

عبد الرحيم الخصار*

منذ السبعينيات بدأ الكاتب والأكاديمي المغربي أحمد المديني مشغولاً بأسئلة الرواية العربية، ففضلاً عن الأعمال التي راكمها في هذا الجنس الأدبي أصدر 20 كتاباً نقدياً، هي في المجمل دراسات وأبحاث تسلط الضوء على راهن السرد العربي، وإن كان المديني حريصاً في معظم كتاباته على التنقيب في الأعمال السردية عن الأثر الذي خلفه تلقي مفاهيم نظرية كبرى ومدى ملاءمة المنجز الروائي للشعارات التي يرفعها أهل هذا الجنس الأدبي. ولعل المفهوم الأول الذي يشغل المديني ويشغل كتاب الرواية ونقادها هو «الحداثة».
وكتاب أحمد المديني الجديد «في حداثة الرواية العربية- قراءة الذائقة»، الصادر عن دار الأمان بالرباط في 400 صفحة يندرج ضمن خانة النقد التطبيقي، فهو يبحث في الأعمال الروائية الراهنة عن العلامات التي تجعلها نصوصاً حديثة تواكب تحولات الكتابة في العالم.
ويرى الكاتب والأكاديمي المغربي أن الأدب الحديث قطع باكراً مع الواقعية الحرفية والوظيفة النقدية للنص الأدبي. واستغل هذا المنطلق ليعود للسياق التكويني لجيل المثقفين المغاربة الذين وصلوا إلى أرض الكتابة في المراحل الأولى لاستقلال المغرب وخروجه من كهوف الكولونيالية. فكانت المحافظة هي مرجعية الكتابة، فالمرحلة اقتضت الانتظام في الصف الوطني والتزام القضايا الجماعية والنضال من أجل الانتقال بالبلاد إلى مركز سيادي متقدم على الخريطة العربية، غير أن هذا الوضع التاريخي لم يكن ليحول دون وجود أصوات تنتقد من الداخل وتتمرد على كل أشكال الهيمنة والاحتواء. وكان المديني يرى منذ ذلك العهد أن هذا التمرد الاجتماعي والسياسي للكتاب ينبغي أن يواكبه تمرد آخر من داخل النص الأدبي.

محاكمة النقد العربي
وضع المديني النقد العربي على كرسي المساءلة واتهم الجيل الأول للنقاد العرب بالمهادنة والتقليد وإسقاط مخرجات الأيديولوجيا على الأدب. عتب على النقد في تلك المرحلة لأنه كان يرى في أكثر الأصوات حضوراً في العالم العربي صدى لأصوات أخرى من خارجه. يقول في مقدمته المطولة التي تشغل 50 صفحة من الكتاب، «كان النقد العربي تلميذاً منضبطاً ونجيباً، يمشي على خطى أسلاف، يعوز أصحابه ذكاء وفضول طرح الأسئلة والقراءة بعيون واقعهم هم، وما يخطه يراع أدباء بلدانهم، لا يكادون يجدون في أعمالهم أكثر من صدى لنصوص الآخرين. فمحمود تيمور ليس إلا نسخة من تشيخوف، وما نجيب محفوظ إلا حفيد لبلزاك، وعبدالرحمن الشرقاوي ابن بار لمكسيم غوركي، وهكذا».
لم يتوقف نقد المديني لنقاد المرحلة الماركسية، بل امتد إلى أبناء الجيل اللاحق الذين حاولوا نقل نظريات النقد الغربي الحديث، واعتبرهم «تلاميذ عرباً غير نجباء» قاموا بما سماه «النسخ الركيك» من دون وعي بالسيرورة التاريخية لهذا النقد. وإذا كان الأدب الغربي قطع أشواطاً طويلة في تحولاته التاريخية، فإنه يصعب في المقابل الاشتغال بالأدوات النقدية ذاتها المرتبطة به على أدب عربي عمره قصير.
في التسعينيات راجت في العالم العربي الدراسات السردية ذات المرجعية اللسانية والسيميائية، وكانت الجامعة المغربية رائدة في هذا المجال غير أن هذه الحركية بالنسبة إلى المديني سقطت في فخ التقليد الأعمى للمناهج الفرنسية التي سادت مند منتصف الستينيات. وظلت هذه المحاولات النقدية بمثابة تمارين تطبيقية للأطر النظرية، أي أنها ظلت مخلصة للمراجع النظرية أكثر من إخلاصها للأدب. بالتالي فقد أسهمت في حجب جماليات النص وقيمه الأدبية والفنية عن القارئ. ولعل هذا ما جعل هذه الدراسات تبقى حكراً على الفضاء الجامعي، محصورة في الأساس بالأبحاث والأطاريح التي ينجزها الطلبة في جو من الانبهار بالمفاهيم الغربية الجديدة عليهم.
يعتب صاحب «تحت شمس النص» و»وهج الأسئلة» على الروائيين والدارسين العرب سوء تلقيهم لمفهوم «الرواية الجديدة» الذي بشر به ألان روب غريّي برفقة ناتالي ساروت ومارغريت دوراس وميشال بوتور وغيرهم. فليس كل قلب لبنية الزمن وتمويه للمعنى وتشتيت للحكاية يجعل من عمل ما «رواية جديدة». وكان المديني أفرد كتاباً لهذا الموضوع أصدره العام الماضي تحت عنوان «كي نفهم الرواية الجديدة».
يدعو المديني النقاد العرب إلى الاقتراب أكثر من المنجز السردي الراهن وسبر أغوار التجارب الأدبية العربية، إنه يدعوهم إلى أن «يمسحوا نظاراتهم المضببة ويؤمنوا بالحداثة عقيدة حياة ووعياً مستمراً بأدب يجدد ولا يقلد». ما ينشده المديني هو الناقد الذي يملك معرفة غير منزوعة من السياق التراكمي للأدب ومشفوعة في الآن ذاته بما سماه «الذائقة» أو الملكة أو الموهبة، إذ سيكون من المجحف أن يقارب نصوص كاتب موهوب ناقد تنقصه الموهبة.

ليست هناك حداثة واحدة
يرى المديني أن مفهوم الحداثة في العالم العربي كان أحياناً بمثابة يافطة لمحال ثقافية حصرية، تدخل إليها من تشاء وتقصي من تشاء، مستندة في ذلك إلى عوامل أيديولوجية خارج النص الأدبي. في حين أن الحداثة في العالم كانت مشاريع متعددة ومنفتحة، غير محاصرة بأسوار عالية. لقد كانت أصلاً ضد الأسوار، غير أن الحداثة في العالم الغربي كانت نتاج تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية عقب عصر الأنوار. بالتالي لم يكن الفكر والثقافة معزولين عن السياق العام. على العكس كانت الحداثة الثقافية في العالم العربي إسقاطاً متعجلاً للحداثة الغربية، وسيكون محك التجريب في العالم العربي هو الاصطدام بتراث مترسخ في الحياة العامة.
يتساءل صاحب «سرد عربي مختلف» و»السرد بين الكتابة والأهواء» عن إمكانية إنتاج خطاب نقدي قبلي متعلق بالأدب العربي، أو أننا مضطرون إلى أن تكتمل معالم الحداثة في التجربة السردية العربية المعاصرة للوصول إلى خلاصات ومخرجات تسعفنا في تقويم أثر النظريات في الأعمال المنجزة.
لا تزال البنى الاجتماعية والثقافية العامة في العالم العربي مرتبطة بالماضي، بالتالي سيظل صوت الحداثة في تدافع دائم مع أصوات أخرى تشد الراهن إلى ماضيه بشكل يجعل الماضي أقوى. ويرى المديني في هذا الصدد أن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر تعبيراً عن نداءات الحداثة، وإن كان الروائي المجدد سيعاني كثيراً الاغتراب وسط بنى التلقي التي اعتادت على نصوص روائية لم تتخلص كلياً من رواسب أدبية تقليدية.
الناقد التونسي رضا الأبيض يلاحق الروائح في روايات عربية
وما يقترحه المديني في كتابه «في حداثة الرواية العربية- قراءة الذائقة» هو قراءات في أعمال روائية عربية حملت على عاتقها رهان التجديد والتحديث في العالم العربي. إنه يصف عبدالقادر الشاوي في «مرابع السلوان» بالكاتب الذي يملك القدرة على المخاطرة ورفض الامتثال المتفق للمعنى والمبنى. ويصف وحيد الطويلة في «جنازة جديدة لعماد حمدي» بالكاتب المجدد الذي فتح مع آخرين آفاقاً للسرد التخييلي بأدوات فنية محكمة وتجريبية. كما رأى أن الميلودي شغموم رمز للكاتب الذي قطع مع السرد باعتباره نقلاً لأخبار ووقائع ومجرى حكاية. وبدا له أن يوسف فاضل أسهم في تطوير شكل الرواية وأن عمله السردي «حياة الفراشات»بني على نقض واقعية المحاكاة بإبدالات عدة. وقف المديني أيضاً عند تجربة معجب الزهراني الذي اتخد في عمله السردي «سيرة الوقت» من الالتباس قالباً للكتابة، ووقف في المقابل عند رواية «آخر الرعية» لأبي بكر العيادي التي طغى عليها طابع التجريد وإلغاء الأسماء والبعد الأليغوري. وعرج على رواية علي المقري «بلاد القائد» التي عمد كاتبها إلى إدخال الذات في الموضوع، عبر الاختراق المباشر للتيمة من دون الحاجة إلى معالجتها روائياً من الخارج، معتمداً في بناء عمله على الإشارات والشطحات والتماهي والمراوغة. تناول المديني رواية سمر يزبك «المشّاءة» بالتحليل مشيداً بطابعها المجازي والاستعاري ومنحاها التجريبي وهيمنة التداخل السردي وإلغاء الخطية. وتوقف عند البيوغرافيا التخييلية في رواية حجي جابر «رامبو الحبشي» التي تستدعي الشاعر الفرنسي لتمنحه حياة أخرى منتزعة من الخيال.
ويرصد أحمد المديني عبر قراءات مطولة ومعمقة، معالم التحديث والتجديد في أعمال سردية أخرى لشكري المبخوت ولطيفة لبصير وعبدالله ساعف وربيعة ريحان وأحمد زين، كما يستعيد تجربة نجيب محفوظ «شجرة التجديد» ومحمد زفزاف «معلم السرد الحديث»، ساعياً إلى إضاءة نقاط عدة في النصوص والتجارب التي تراهن على دفع الرواية العربية إلى مساحات متقدمة في الحداثة والراهنية.

  • شاعر وكاتب من المغرب

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة