بنية التكرار.. في رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لمحمد النعّاس

صباح هرمز:

ولو عدنا الى متن نص رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لكاتبها الليبي محمد النعاس وقارنا بين السيارتين سنقرأ تجاوز حدود المقارنة بينهما، مع انها جاءت بقصدية المقارنة بين زوجته زينب والمدام، حيث مثلما تشرع في بداية الرواية، فإنها تختتم كذلك، بالمقارنة ذاتها. ولكن لخضوعه لزوجته، وسيطرتها عليه، لا يستطيع بيع سيارته القديمة، وشراء سيارة جديدة، بدلا منها في المقارنة الأولى، بالأحرى التخلي عن زينب، والإقتران بالمدام، بعكس المقارنة الثانية، حيث يستمد قوته من المدام، متخذا قرار السيطرة على زينب، وتبديل سيارته القديمة بالجديدة. وذلك من خلال مخاطبتها له بعبارات توحي الى الجنس، كقولها: (يمكنك أن تركب سيارتي في الوقت الذي تشاء). أو: ( هيا أنزع قميصك لا تخف لن آكلك.).
ويلجأ الى المقارنة ذاتها أثر تجربته لقيادة سيارة المدام، قائلا: (البي أم دبليو هي فخر الصناعة الألمانية، صوت محركها وحده جعلني كل صباح أتحمس الى السفر والترحال. البيجو القديمة تكح عند تشغيل محركها، تجعلني أنفر منها. .).
أما المقارنة الثانية بينهما، في كون المدام نقيض زينب، وهو يقول : (لم أجد شخصا شغوفا بالخبز مثلها)، بعكس زينب التي لم تحب كثيرا قصصه عن الكوشة، توحي الى تعلق الأولى به وحبها له، و نفور الثانية منه، وبغضها له.
بينما توحي عبارة: (أشتم رائحة عطر رجالي) الى أرتياب ميلاد بخيانة زينب له. وهو يستطرد قائلا: (قد يكون عطري، ولكني أفقد ذكرى عطري، أشتم هوسي بإلقاء زجاجة العطر في القمامة. .). كما أن العبارة التي تطلقها زينب بوجه ميلاد في ليلة الدخلة: (ليست كل فتاة لديها غشاء دم)، هي الأخرى تترك لديه الإنطباع الأول وهو أنها مرت بتجارب جنسية سابقة. أي الأرتياب بخيانتها له.
*التماثل: تتكرر بنية التماثل أكثر من خمس مرات. مثلها مثل بنية الإيحاء، يعمد السارد الى إجراء وجه المقارنة بين حالتين أو موقفين، لبلوغ بنية التماثل. كما في الصفحة (22)، حيث ينزع الى المقارنة بين زينب والمدام، في شغفهما أو نفورهما من الخبز، ليميل هذا الشغف الى جانب الثانية بنقيض الأولى الذي يرتبط بدوره بمدى إنجذابهما الى ميلاد، لأنه يتعامل مع هذه المادة كما لو كانت محبوبته أو عشيقته. وتبعا لذلك، لعدم وجود من يماثل شغف المدام للخبز، فإن المدام تماثل الخبز، أي هي مثله، مثل الخبز محبوبته وعشيقته. كما أنه يشبه صناعة الخبز بالحياة بشكل عام، وحياته على نحو خاص. ذلك أن الحياة التي يعيشها مليئة بالترقب والقلق. في إشارة واضحة الى ما يعانيه من المحيطين به، وكذلك الى المثالب التي تعتوره، وهو على ذلك يضع صعوبات الحياة، وصعوبات صناعة الخبز في كفتي ميزان متساويتين، أي متماثلتين مع بعضهما، وبالمآل حياته هو، إذ كما طرد من المخبز، هكذا أضطهد أيضا من قبل المجتمع.
أما عبارة: (فعلناها في الغرفة نفسها التي رأت فيها زينب عمها لأول مرة يضاجع إمرأة) التي يطلقها ميلاد، فهي لا تماثل مضاجعته لزينب في الغرفة نفسها فحسب، وإنما تماثل مضاجعة المدير العام لها أيضا. وإذا كان ميلاد في التماثل الأول في ذروة سعادته، وهو يدخل الشقة بسرعة ليجد زينب عارية تماما، يقبلها ويشم رائحة شعرها، فإنه في التماثل الثاني كان في أشد لحظات حياته حزنا وقلقا وإرتباكا، لأنه لا يعرف كيف يتصرف وماذا يفعل، وهو يقف أمام باب الشقة، يسمع أصوات رجل وإمرأة داخلها.
يصف لحظاته المأساوية هذه قائلا: (لم أعرف الى أين أذهب. في البداية كنت أقود سيارتي بإتجاه الغرب باكيا كطفل، وددت لو أمكنني أن أقطع الحدود التونسية، أقبل أخمّيس، وأحفر منزولي صحبته، وددت لو أمكنني أن أقطع الطريق حتى الجزائر، وأغيب في فنادقها وأغانيها وأفرانها، ولكن هذا لم يحدث، وجدتني أمام بيت المدام أقرع الجرس باكيا. .).
*الحلم: أعتبر فرويد أن الأحلام تنبع من اللاوعي أو اللا شعور الذي هو مكمن الكبت والرغبات الدفينة وإستخدامها في عملية التداعي الحر في معالجة مرضاه من أمراضهم العصابية. والأحلام التي تتراءى لميلاد، وهو يحاور والده الميت، تصب في هذا الإتجاه، سعيا لمعالجة ما تعرض له في طفولته وشبابه لسخرية الآخرين، وضعف شخصيته، وإستغلالها من قبل الأصغر والأكبر منه بما فيهم شقيقاته وعمه والعبسي وصولا الى زوجته زينب.
يظهر له أبوه أكثر من خمس مرات في الرواية. وفي كل مرة بصيغة تختلف عن الأخرى، وتعبر عن رغبة من رغباته الدفينة. ولعل حثه على البحث عن هوية مخالفة له، مثله مثل الخباز الحاذق الذي يترك توقيعه على رغيف الخبز، هو أبرز ما يعاني منه، لا لأن هويته هذه تمثل جزءا معينا من رغباته المكبوتة، وإنما كل حيثياتها: (أنظر هذه العلامات هي توقيع الخباز، من المفترض أن يكون لكل خباز توقيعا خاصا به.). في إشارة واضحة الى تكوين شخصية خاصة به.
وإذا كان والده يحثه في هذا الحلم على البحث عن هوية مخالفة له، فإنه في حلم آخر يدفعه الى تعلم السباحة، أي المغامرة، وعدم الخوف من النتائج المتمخضة عنها، لأن مجرد التفكير بها يثنيه عن السباحة، وبالتالي يؤدي به الى الغرق. وقد يكون مرد هذا الحلم، عدم قدرة ميلاد على إتخاذ موقف معين تجاه زوجته التي تخونه، مثله مثل هاملت المتردد في قتل عمه، سواء بالتخلي عنها، أو في قتلها. ليأتي حلمه هذا تحقيقا لتجاوز المحنة التي يمر بها، وعونا من أبيه للإقدام عليه بتنفيذه.
إن شخصية (ميلاد)، بطيبتها وسذاجتها وإستغلالها من قبل المحيطين بها، أقرب الى شخصية الأمير (ميشكن) في رواية (الأبله) لدوستويفسكي. ولكن هذا لا يعني أنه لا يدرك، مما يعانيه، أو المثالب التي تعتري طريقه في الفشل الذي يواجهه بكل مرافق الحياة والدروب التي يسلكها، وينبغي معالجتها كما كان ميشكن يدرك ذلك.
مثلما ساعده حزام العبسي، في أن يتحول من شخصية تتحلى بصفات الأنوثة الى شخصية تتحلى بصفات الرجولة، كذلك فقد ساعده الحلم بأبيه في الجنة، وهو يعانقه لأول مرة في حياته، أن يلعب الدور نفسه، حيث: (كان محاطا بالخبز، أخبرني أنه ليس عليّ أن أعمل مجددا، وأن الناس كلهم سواسية. أبتسمت له وعانقته. لم يعانقني أبي قط في حياته، لكنه فعل ذلك في ذاك الحلم الوحيد.). في إشارة واضحة الى التحول الذي سيطرأ على شخصية ميلاد.
كما ظهر له وهو يوبخه على عدم غسل يديه قبل الإمساك بالعجين، ذلك لأنه بعكس ذلك، يؤدي الى إلتصاق العجين بهما، ويأمره بطي العجين مثل ما يطوي ملابس زوجته، في تعليق ساخر على إهتمامه بملابس زوجته أكثر من إهتمامه بالخبز، وإن شئنا التأويل في حبه لملابس زوجته أكثر من حبه للخبز، وهو يقول له: (أم هل أنستك الملابس فعل ذلك؟)، لتتحول التعليمات الى تقريع ومحاسبة، مرددا عبارته المعروفة: (ستغرق إن خفت الغرق).
ينطوي هذا الحلم على عدة دلالات ورموز موحية. فبالإضافة الى ما ذهب الأب في تعليقه الساخر، فهو في توبيخه له على عدم غسل يديه، يحمل قدرا كبيرا من شعرية السرد. ذلك أن القصد من غسل اليدين هنا ليس لإلتصاقهما بالعجين، بقدر ما هو لعدم تلوث العجين، وبالتالي سعيا لتطهيره من الأيدي التي تمرغت أصابعها فيه، إقترانا بسرقة شقيقه للمخبز منه أو من أبنه لا فرق، وبالعودة الى قول الأب لميلاد: ( ليس عليك أن تعمل مجددا، وإن الناس كلهم سواسية.). في إشارة الى خيانة الأخ لأخيه، في هذا الزمن القحط الذي بات يفتقد لأبسط المقومات النبيلة التي كان يتمتع بها الإنسان سابقا.
(صالحة) شقيقته هي الأخرى حلمت بأبيها الذي كان يريد أن يعرف أين هو ميلاد، مكررا سؤاله هذا أكثر من مرة، ليتلقى الجواب نفسه منها، بأنه نائم. ولأنه لم يقتنع بإجابتها، رد عليها قائلا: (إن ميلاد ليس نائما، بل ميت، ميت، ميلاد مات؟). في إشارة واضحة الى سطوة زوجته عليه وخيانتها له: (سألته محاولة إستنطاق إجابة منه، لكنه كان قد غاب عائدا الى حفرته، تاركا الرغيف والمفتاح على قبره).
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة على المتلقي أثر إنتهائه من قراءة الرواية هو: ترى أي منهما بلغ هدفه؟ هل الطرف المتمثل بالمجتمع، أم بطل الرواية؟ بناء على التناقض القائم بين قتل زينب على يد زوجها، وتصوّره بأنها لا تزال حية؟!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة