وجهان لعملة واحدة

انتصار النعيمي

كلما مأ أمسَكَت الكتاب تذكرته، راودتها الذكرى عن انشغالها عنه، لا تذكر له أكثر من جلسته برفقة كتابه طيلة النهار حتى قبيل الغروب بقليل، ثم يقوم ليجلس في مكان آخر، يرافقه كأسه وصوت خالد لا يفارق ذاكرتها، أم كلثوم تارة وفريد تارة أخرى أو عبد الوهاب، هم من يبدد وحشة ليله برفقة كأسه، كانت تجلس بأرجوحتها في نهاية الحديقة، في ظلام دامس، تراقبه كل ليلة وكأنها كانت تعلم بأنها ستفارقه قريبا، ولن تراه مرة أخرى، وتنعم بحضنه ورائحته المميزة، كانت تشفق عليه حين يحتسي الخمر وتغضب منه وتوبخه كل يوم، وكان حنونا معها ويتقبل توبيخها بابتسامته المعهودة كأي أب رحيم بطفلته الغالية، كان يقسم لها أحيانا أنه لن يحتسي الشراب مرة أخرى، كي لا يغضبها، لكنها كانت تتعلق برقبته وتقبله فتكتشف صدقه من كذبه، فأصبحت رائحته المميزة تلك هي كل ما يبعث فيها السعادة فيما بعد دون أن تشعر، لأنها رائحة الحب والحنان ودفء حضن أب لم تهنأ معه كثيرا، لقد أهداها كل شيء جميل في شخصيتها وحياتها ولم تكن تعي ذلك، فسر جمالها وتميزها كان بثقافتها بسبب ذلك الكتاب الذي يدسه لها بين يديها كل ظهيرة، ليطلب منها أن تكمله في اليوم الثاني، ولم يكن للنوم مكان في ليلها، بل كان ذلك الكتاب هو رفيق الليل المثاليْ المعشوق الذي يبيت بحضنها كل ليلة لغاية الفجر، ثم تسترسل بنومها حتى قبيل الظهيرة، ثم يلتقيان و يجلسان ليتجاذبا أطراف الحديث ويشرح لها ما خفي عنها في طيات الكتاب، ثم يغادرها ليكتب ما دار بينهما ملخصا تفاصيل دقيقة بطريقته الارتيابية التي يغلفها الشك بكل شيء، ليسجل وجهة نظره عما قرأ او قرأت هي وأبدت به وجهة نظرها، وهكذا ثم يأتي الليل لتبدأ رحلة جديدة مع أغنية أخرى للست أو فريد ليحكي لها تفاصيل كل شيء دار في ليلة بث تلك الأغنية أو مسيرة خروجها للناس، كان موسوعة حية تتنفس الألم ولغاية هذا اليوم لم تعرف سبب ألمه ومن أي شيء كان يهرب ويتألم وماذا يريد وما الذي ينقصه، لم تعلم …. هذا السؤال كان يجعلها تبكي كل ليلة وهي تجلس بعيدة عنه ببضع أمتار وتراقب دموعه تنسكب مع خمرته التي أدمنها لآخر يوم واتته المنية فيه، أصبحت لديها عقدة الألم مرتبطة بكل هذا الواقع الجميل الذي كانت تراه حزينا مؤلما، لأنها كانت ترى والدها الحبيب بهذا الحال وهي تعتصر ألما لحاله، فأقسمت أن تتزوج رجلا مختلفا عنه تماما، رجلا متدينا لا علاقة له بالثقافة والأدب وهذا الحزن الدائم الذي ارتبط بتفكيرها بالكأس والكتاب والموسيقى، حيث أصبح الكتاب والموسيقى هما كل حياتها، وكل ما تعرف من العالم لا شيء غيرهما ، الكتاب يعني الفن والادب والتاريخ والعلوم والحياة، مختصرة على شكل كلمات، والموسيقى كانت تعني كل شيء عن الجمال والرقي والتذوق، لم تكن تمتلك سوى هذه المقومات مع جمالها المميز ترى هل يمكن أن تمتلك اكثر من ذلك ؟ نعم إنه حنانها وأمومتها الأبدية، لقد كانت أما حنون لأبيها المسكين والآن أصبحت بكل ما تملك ملكا لرجل آخر غير أبيها لا يشبه أبيها تماما كما تخيلته ورغبت به ……… ومرت السنين وتحولت الى كائن مسخ لم تعد تعلم شيئا من عالمها الذي تربت عليه، ففقدت روحها وهويتها وكل شيء حتى جمالها، فقدت نفسها تماما وهي مستسلمة بيأس، لأنها لن تجد خيط أمل ضئيل قد ينقذها ولو حلما لتعود لعطر أبيها الذي حاولت أن تتخلص منه بالزواج من رجل متدين لا يشبهه بشيء، لأنها ظنت أن الألم سيختفي، ولن يموت هذا الرجل سريعا بسبب ألمه، لكنها لم تعلم بأنها هي التي ماتت ألما لأنها هجرت ذاتها وغيرت هويتها ورحلت بلا عودة، وفي ذات يوم وبعد رحلة طويلة من الألم المهلك وعلى حين حب واستسلام …. التقته .. التقته أخيرا كان هو …. كان يشبه والدها بكل شيء بكل شيء إلا إنه كان وسيما هذه المرة، ويصغرها بأعوام وكانت هذه فرحتها لأنها كانت تريد رجلا لن يموت ويتركها لأن الموت والفراق وجهان لعملة واحدة، لقد أغرمت به لدرجة الوله، لدرجة العبادة، وبدأت رحلة الألم مرة أخرى لأنها وجدت أباها المسكين بهذا الرجل المتألم، وأصبح جل أمنياتها أن تحتضنه ولو لمرة واحدة، وتستنشق رائحته التي ستجعلها تعيش الى الأبد. وعادت لمرحلة الألم الأولى ذاتها، ولا تعلم السبب لغاية اليوم لمَ يتألم كلاهما؟ لكنها تعلم أنها تتألم كل هذا الألم لأنها تخشى الفقد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة