لقد اعتدنا على التمييز بين الأجيال الجديدة التي تربت على القيم الغربية، وتلك التي تشبثت بأسلوب حياة تقليدي. وأخذنا نصف الأولى دائماً بالحداثة والتقدم، والثانية بالرجعية والتخلف.
إن هذه الفكرة إنما جاءت بسبب الموقف من الآخر الغربي، الذي هو في الأصل ابن الحضارة الأوربية. وقد توفر له كل ما يحلم به من وسائل الرفاهية، ومقومات البناء، وأدوات التفكير. فسجل خطوات سريعة، انتقلت بها حياته من نمط لآخر. وخصوصاً في القرن الأخير، الذي شهد قفزات غير مسبوقة.
ولم تغفل هذه الفكرة البؤس الذي كابده الشرقيون في ذات الحقبة، والفقر المدقع الذي عانوه، رغم الثروات الطبيعية التي يملكونها. فهناك فارق كبير بين طريقة العيش لدى الطرفين، ليس فقط في الدخل، الذي يتميز بتفاوت هائل، بل في السلوك اليومي والتقاليد الاجتماعية ومستويات الإنتاج والبحث والدراسة وغير ذلك.
مثل هذا الأمر لم يكن يخفى على أبناء الشرق الذين كانوا يوفدون للدراسة أو العلاج أو الاطلاع. وقد ساعد على نشوء هذه الحركة وقوع بلدان آسيا وأفريقيا تحت الهيمنة الغربية، وتفاقم ظاهرة الاستعمار التي خلقت رابطة ما بين الطرفين.
لكن من يدقق في الأمر سيجد أن القيم التي تعامل بها الغرب مع الشعوب المستعمرة، لم تنم عن حس إنساني، ولم تظهر وازعاً أخلاقياً، مثلما توحي به الثقافة الغربية. بل على العكس من ذلك عكست تخلفاً بشعاً، لا يمكن أن يدرج على قائمة التقدم. وكان حرمان هذه الشعوب من مواردها الحقيقية، في النقل البحري، والثروات الزراعية، والمعدنية، نموذجاً صارخاً على هذا السلوك. لكن الشعوب المغلوب على أمرها، كانت تتصرف على سجيتها التي ألفتها منذ عصور طويلة. ولم تبد أي عنف أو وحشية، كالتي اتبعتها الأساطيل الغربية المجهزة بالمدافع والجنود المدججين بالسلاح. ولم تكن حركات المقاومة غير المجدية التي لجأت إليها سوى الحل الأخير، لأن الغزاة القادمين من وراء البحار لم يقدموا لها أي عون ولم يمنحوها أي اعتبار.
أي أن الشعوب غير المتعلمة، وغير المتحضرة، التي لم تذق طعم الحياة الجديدة في تلك السنوات، ولم تعرف البخار ومحركات الوقود الصلب أو السائل، كانت تتمتع بسلوك أخلاقي رفيع، مقارنة بالشعوب الغازية. بحسب ما أقرته مواثيق حقوق الإنسان، التي لم يستطع إنكارها الغزاة، فضلاً عن الأديان والمعتقدات التي يؤمن بها الناس في كل مكان.
وأن التصنيف الذي ما برحنا نضع اللوم بموجبه على أنفسنا كان خاطئاً بالمرة. وكنا أكثر تحضراً من الغربيين الذين مازالوا حتى هذه اللحظة ينظرون إلينا بقدر من الاستعلاء. لا لشيء إلا لأنهم امتلكوا منطق القوة، الذي جعلهم يفرضون على الآخر ثقافتهم الخاصة. وكان أولى بهم أن يساعدوه في تجاوز محنته، وتطوير عالمه. فليست إرادة القوة في أي عصر من العصور هي الفيصل الذي تقاس به درجة التخلف أو التحضر في هذا العالم على الإطلاق.
محمد زكي ابراهيم