الالتفات واللازمة القبلية في (مكابدات الحافي)

د. جاسم خلف الياس

مدخل:
يعد القول الشعري قولا ساحرا وجذابا وكثيفا كما هو متعارف عليه، والمشتغلون في حقل النقد انشغلوا كثيرا في كشف الاشتراطات الفنية لهذا القول، وأنماطه المتنوعة، في حراك فاعل بين التشكيل وما رافقه من تغييرات في البناء النصي، والتدليل وما رافقه من تطورات في القدرة على انتاج المعنى. واستمرّ هذا الحراك بين المفردة وصياغتها في خضوعه لإحساسات الشاعر ووعيه في القبض على استجابة القارئ عبر التوظيف المعرفي (الترميزات والتناصات والانزياحات … وغيرها) ومن ثم التربص بفائض المعنى.
القراءة:
سعى الشاعر عبد الأمير خليل مراد في مجموعة (مكابدات الحافي) التي هي قيد القراءة، إلى التوسع كثيرا في هذا التوظيفات المذكورة أعلاه، وتقوّيض تطمينات القارئ في البحث عن المعنى القار، وأدخلته في دائرة البحث عن المقاصد المتخفية في مظان النص، ومن ثم إغوائه في التفاعل مع حراك التدليل، وإغراء طاقته في تجاوز القراءة الخاملة التي تركز على المعنى القاموسي، والانجرار وراء ما يعمد إليه الشاعر من تعويم الدلالة وخلخلة نسقها، والاشتغال على إعتامها. وسنتناول في هذه المقاربة، الالتفات واللازمة القبلية في (مكابدات الحافي) بوصفهما أهم مهيمنين نصيين في تشكيل المجموعة.

الالتفات وتحولات الأنساق
يعد أسلوب الالتفات من الأساليب البلاغية التي وظفها الشاعر في اشتغال بارع في التحوّل بجهة القول من نسق تركيبي إلى آخر عبر الضمائر الثلاث ( المتكلم « أنا « والعائب « هو « والمخاطب « أنت «). من أجل خلق مراوغات دلالية متنوعة، فضلا عن التحولات المتعلقة بالأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل) أو العدد (الإفراد والتثنية والجمع) أو النوع (التذكير والتأنيث. وعلى الرغم من أن كثيرين من البلاغيين القدماء يتفقون على أن هذا الأسلوب البلاغي ((تطرية للسامع، وتجديد لنشاطه، وصيانة لخاطره من الملل والضجر)) ( ).
إلا أن النقاد المحدثين ومنهم عزالدين اسماعيل لا يعد الالتفات حيلة من حيل جذب المتلقي وتشويقه؛ لأن ما يحدث من انحراف للنسق أو انتقال في الإيراد الكلامي من صيغة إلى أخرى ليس انتقالا استطراديا. وليس تعليقا على ما قيل أو حدث، وليس استشهادا بطرفة أو ملحة وما شابه ذلك من وسائل تطرية نفس المتلقي والترويح عنه، وإنما انتقال منشئ الخطاب من صيغة إلى أخرى يحكمه المعنى المقصود الذي رتبه في نفسه، والذي جعل لإحدى الصيغ رجحانا على غيرها في تحقيق ذلك المقصد، ويصبح عندئذ الانحراف عن النسق هو منتج الدلالة المقصودة وحاملها( ).
يفتتح الشاعر قصيدة (تهجدات في حضرة الذبيح) بالمقطع رقم (1) وبنسق المتكلم عبر الضمير (أنا) (لم أسأل عن هذا القلب المجروح) ولكن سرعان ما يتحول النسق من المتكلم إلى الغائب (هو) (عن سبط يمشي مذبوحا) وينتقل مباشرة من (التذكير إلى التأنيث) (تتبرج في هذا العالم/ وهي تضوي رايات للعشق). أما في المقطع رقم (2) فيسيطر الضمير الغائب عليه تماما، ولا يتقوّض هذا النسق إلا في سطر شعري واحد، إذ يأتي بنسق المخاطب (أنت) (فكفوفك يا ابن ضمير الكوكب مسبحة) وفي المقطع رقم (3) يحدث الالتفات من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم في (كيف تراني وأراك؟) ومن ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب في( كيف أقطر روحي في نجواك/ كيف سأمحو بسؤالي من عاداك؟/ كيف أصلي في محرابك مفتونا؟) كما يتحول النسق الزمني من الحاضر إلى المستقبل ثم يعود إلى الحاضر ثانية. وفي المقطع رقم (4) يصنع حيلة للانتقال من ضمير الغائب إفرادا وجمعا إلى ضمير المتكلم بصيغة الجمع إلى نهاية المقطع (لا ليس منا في التلاقي من جبن/ قلوبنا من حجر يوم المحن) وفي المقطع رقم (5) يتحول النسق الشعري من ضمير المخاطب (لملم أنقاضي زفرات وخطايا/ وتوكأ آمالي الأبدية) إلى ضمير الغائب ( ويزلزل بالرقص غوايات المغرورين) فضلا عن الانتقال من نسق الحاضر إلى نسق الماضي (وأزلام بني الجوشن لما ركعوا) . أما المقطع رقم (6) والأخير،يتحول نسق الضمائر من الغياب إلى الحضور (يا نهرا كالدفلى صار ضريعا/ والعباس بقربته يتملّى / أصداف الماء على الشطآن/ أنا لم تبتل عروقي) ليعود إلى الغياب ثانية. ونستنتج من تحليلنا لهذه القصيدة التي تناص فيها الشاعر كثيرا مع فجيعة كربلاء واستشهاد سيدنا الحسين عليه السلام، أن جمالية هذه التحولات تتعلق بأحاسيس الشاعر ومشاعره، ((لالتفات من الفنون ذات الأثر الفعّال في تنويع أنماط الكلام تلبية لبواعث نفسية شتى)) ( ). فضلا عن فاعلية الضمائر في التعالق الشعري/ السردي، لا سيما ضميري المتكلم (أنا) و (نحن) المعبرين عن الذات، وعلى هذا الأساس فإن الشاعر وظف هذا الأسلوب البلاغي من أجل غايتين: الأولى فنية جمالية، والثانية دلالية. ويجب التنويه إلى أن القصيدة جاءت في شكل مقاطع، وهذا بدوره ساعد على الانتقال من فكرة إلى أخرى، إذ ينتفي الملل والضجر عن المتلقي ويتفعّل نشاطه، فيتعاضد كل من التقطيع والالتفات في صنع تلك الجماليات والدلالات المختلفة.

اللازمة القبلية
اعتمدت أغلب قصائد المجموعة على المقاطع الشعرية عبر متواليات رقمية بدأت برقم (1) لتنتهي بالرقم الذي يختتم القصيدة. ولو أخذنا قصيدته (مكابدات الحافي) في سبيل المثال لا الحصر، لوجدناها تتكون من سبعة مقاطع، والتزم كل مقطع بلازمة قبلية (أنا بشر الحافي) إذ تشكل مفتتح كل مقطع؛ وذلك من أجل خلق غايتين في هذا الصنيع الشعري: الأولى دلالية، إذ يؤكد الشاعر على الدلالة التي يريد ترسيخها في ذهن القاري، والثانية إيقاعية بأن يضفي الشاعر على القصيدة إيقاعا داخليا عبر البنى التكرارية. والشاعر عبد الأمير خليل مراد في هذه القصيدة تعامل بإحكام مع اللازمة القبلية، ولم يغير في تركيبها النحوي في المقاطع جميعها، وهنا عمل على ثبوتية البنية التكرارية على المستويين التشكيلي والتدليلي، فضلا عن تواصلها مع العنوان واستمرارية تأثيرها عبر توظيف الدالة المركزية وتعالقها في كل مقطع من مقاطع القصيدة، وهنا تتجلى لنا جماليات اشتغال اللازمة القبلية بوصفها موجها مشهديا يهيئ للتعبير الشعري تدفقه الرؤيوي، كما يمكننا عدّها بؤرة دلالية في الآن ذاته. وتتكرر اللازمة القبلية ذاتها (أنا بشر الحافي) في قصيدة (من أحوال الحافي وأماليه) التي تكونت من أربعة وأربعين مقطعا شعريا، إذ تكررت هذه اللازمة في ثمانية عشر مقطعا، وتغايرت في ستة وعشرين مقطعا، وكانت تتراوح بين الاتصال والانفصال مع اللازمة القبلية الثابتة (أنا بشر الحافي)، وقد تجسد هذا الاتصال في المفتتحات الآتية: (بشر أنا وقصيدتي منجاتي/ مقطع 11) ، ( أنا بشركم راعني الخاطبون/ مقطع 12) ، ( أنا في صفوة الأسماء بشر/ مقطع 14) (بشر أقول بشارتي آمالي مقطع 19)، (أنا رائحتي مسك ولحاظي جمّار/ مقطع 21) وتجسد الانفصال في المقاطع الأُخر من القصيدة.
وفي ختام القراءة ننوه إلى أن هذه القراءة ستكون مشفوعة بقراءات أخر في المجموعة ذاتها من أجل إكمال ما بدأنا به في توظيفات (الترميزات والتناصات والانزياحات).

الهوامش
( ) البرهان في علوم القرآن ، بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث، ط3، القاهرة، 1984 : 314.
(2) ينظر: جماليات الالتفات، قراءة جديدة لتراثنا النقدي، عز الدين اسماعيل، النادي الأدبي – جدة، ط1، 1990: م2/ 884-886. وينظر: ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ابو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، شرح ومراجعة يوسف الحمادي، مكتبة مصر ط 1، 2010: 1 / 31.
(3) فن الالتفات في مباحث البلاغيين: جليل رشيد فالح، مجلة آداب المستنصرية، بغداد، ع9، 1984: 65.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة