نفتقد القصيدة، لا الشعر والشاعر

عبد الله الريامي

الشعر شيء لا يمكن استبداله، لا يحل محله شيء آخر. لذلك أحاول مرافقته كما أرافق ذاتي، ووجودي الأرضي الذي لا يمكنني استبداله.
مشروعي الشعري هو مشروع وجودي الشخصي، ولما كنت لا أرغب في إنهاء حياتي بيدي، فإن الإقامة على الأرض تتطلب الحرية. ولما كنت لا أنتظر خلاصا ما، تحت أيّ عنوان كان، ولا آمل في أيّ تغيير قد يناسبني، فالشعر هو حريتي التي أسعى فيها، إليها.
وعيت أن الحرية شيء غير متفق عليه، تماماً مثل الشخص نفسه ومثل القصيدة. الحرية بالفطرة وبالفكرة زئبقية: انتقائية أحياناً، ملتبسة على الأغلب، فاجعة على الدوام.
ربما، وُجِدت الحرية في يوم غابر، لكنها لن تكون في يوم قادم؛ فالذي اخترع العجلة، ووضع الحصان أمام العربة، وأمسك بالسوط ليتحكم في السرعة والتوقف، لن يعود إلى الوراء أبداً. إنه يتراجع إلى الأمام فقط.
الحرية عند الشاعر هي حالة عقلية، فردية.
منذ البداية وإلى أن تأتي النهاية، أنا قارئ شعر. والقراءة ليست فعلا أسهل من الكتابة، ولا أعلى منها.
عندما تصيبني القراءة بالملل أو تملّني، وعندما تقتضي الحال توازناً روحياً ووجودياً أخرج لأتنفس قليلا من الكتابة.
لست كاتب شعر ولا صانع قصائد. أنا هاوٍ، أكتب بشغف ومزاج وتجريب. وكلّي أمل ألاّ أثبت، في القصيدة، على حال أو منوال.
كتابة الشعر شيء مختلف عن أسواقه. في كل الأزمان هناك كثير من كتاب الشعر، ولأسباب غير أدبية أو جمالية، لم يصلنا إلا الناجون من الضياع والنسيان. لا أستطيع تصور أن الشعراء في التاريخ هم فقط من نعرفهم اليوم، ولا حتى أولئك الذين سيعرفهم من سيأتون بعدنا. انتشار كتابة الشعر علامة على مقاومة القبح والتزييف والنفي والاستبداد، على جميع الصور.
لا أشتكي من حالة الفيضان الشعري الراهن. وأرجو من كل من يجد في الشعر سفينته التعبيرية ألا ينزل منها لأيّ اعتبارات استنكارية أو نقدية مزعومة.
الشعر، على إطلاقه، إبحار من دون موانئ وصول، كالخيال والجمال. واليوم هناك طاقات وقدرات واستيعابات غنية في الآداب والفنون والعلوم والحياة، لكن كتابة الشعر شيء والبحث عن القصيدة شيء آخر. القصيدة هي المثال الفني والجمالي على وجود الشعر، على ديمومة إلهامه.
في كثير من شعر اليوم، نفتقد القصيدة، ولا نفتقد الشعر والشاعر كثيرا. اليوم، انقلب النثر على القصيدة. النثر العمود الجديد للشعر الراهن، فكل نثر قصيدة. ليس هناك شكل محدد للشعر، أو زيّ عليه ارتداؤه، لهذا لا يمكن أن نخطي الشعر، على اختلاف أزيائه، منذ أول قصيدة كانت. لا يخطئ الإنسان الشعر أياً كان زمانه وشكله ومكانه. الشعر رسائل، تحت الجلد، تتعرفها الحواس، تقرأها البصيرة، مكتوبة بلغة واحدة عابرة للثقافات والأزمان. لا تلتبس النجوم في السماء على أحد، ولا يتمنى أحد أن لا تكون هناك سماء في اليوم التالي. قوة الشعر، ومعجزته الجمالية التي لا غنى للإنسان عنها، هي في عدم ثباته على شكل أو لون، عدم استسلامه لزمن أو وصايا. وحريته هذه هي التي تعطينا الحق في التأملات والاقتراحات والمقاربات، في محاولة طُرق جمالية إليه.
استخلصت من القصائد التي أحببتها، وألهمتني، أنها تلك التي تضيف إليك، تفاجئك، تعيدك إلى النظر في المألوف وغير المألوف، تجعلك أقوى.
وأن القصيدة معمار، مادته اللغة، بثلاثة أبعاد: البعد المشهدي، البعد الإيقاعي (النسقي)، والبعد الدلالي. والبعد الرابع هو القارئ الذي لم يكتشف بعد كالأبعاد الأخرى التي في طور الاكتشاف.
والشاعر تجربة داخلية، وخبرة عامة، تتحول إلى خاصة، ومستقلة، ينظر منها إلى الآفاق، وإلى ذاته وتبادلاتها مع العالم والوجود كله، فهو مزيج من الفطري والمكتسب، من العفوي والقصدي.
الشعر معرفة يستحيل تحققها مجتمعة، عند أحد أو في أيّ زمان أو مكان. وللسعي إلى تحقيقها يتوالد الشعراء بلا انقطاع، وتُبقي بنقصانها ذلك الشعر شعراً، لا يُكتفى منه، ولا يفنى.
ربما، صمت بعض الشعراء تفكير في الخطوة التالية. ولا أحسبهم يصمتون لأن العالم صدمهم، أو أنهم يعتبرون أنفسهم “ضحايا”، فذلك رجع صدى رجعي، والشعر ليس أشباحاً من الماضي. ليست هناك غرائبية مفتعلة أو مفاجئة. إنها أقنعة تتساقط، اعترافات مؤجلة، ومسارات ليست جديدة تتجسد مآلاتها في كل يوم يأتي. لم يكن العالم يوماً غير غرائبي، بكل المعاني الممكنة. يعيش الشاعر دائما وهو ينظر إلى الخراب وإلى الجمال بالتوازي، يتوقّعهما. وإن كان الشاعر العربي يرى نفسه أقل شأناً في بؤس العالم كله، فذلك شأنه، لا شأن الشعر، ولا العالم. يأكل العالم نفسه، وشاعر القصائد كما الفرد الشاعر، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يتشاركون نفس الهم وينظرون إلى نفس المصير.
لا تتورع المناسبات عن تمجيد الشاعر والمباهاة به، ليبقى معروفاً بالاسم، مجهولا بالوجود.، كما طائر الأسطورة. لو كان نصف العالم رماداً، ونصفه الآخر حرائق، فالشاعر العنقاء.

  • عن مجلة الجديد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة