لم يكن بوسع شعوب الأرض أن تتواصل مع بعضها دون لغات مشتركة، تتداولها في مجالات شتى، مثل التجارة والسياسة والحروب والمنازعات والاتفاقات الدولية. فليست هناك لغة واحدة في هذا الكوكب ينطق بها الجميع. وهكذا باتت معرفة الإنكليزية أو الفرنسية، من سمات المجتمعات المتحضرة التي تطمح لبناء علاقات متينة مع البلدان الأخرى.
إن اللغة بوجه عام هي من أبرز عناصر الحضارة في أي مكان من العالم. وإذا ما قيض لشعب ما أن ينهض من رقدته، فإن لغته ستأخذ في الانتشار، وتصبح محط أنظار المتعلمين في بلدان المعمورة. أما إذا أخذت هذه النهضة بالأفول فإن لغتها ستعاني الشيء ذاته. وهذه هي حال العربية التي توقفت في القرون الأخيرة عن التمدد، بعد أن اتسعت شرقاً وغرباً، وكانت محط إعجاب النخبة في جميع بلدان العالم القديم.
وبرأي البعض فإن اللغة التي تميل أن تكون لغة اتصال عالمية يجب أن تتخلى عن أصولها العرقية أو الدينية. فالإنكليزية لم تعد لغة خاصة بالأقوام التي استوطنت بريطانيا والولايات المتحدة، بل أصبحت بمرور الوقت لغة آسيوية وأفريقية. يستخدمها الكتاب في أنحاء متفرقة من العالم. وعلى خلاف ذلك يرى صامويل هنتغتون أن استخدام لغة عالمية مثل الإنكليزية يقوي الهويات المنفصلة لدى الجماعات التي تعيش في بلد ما ولا يضعفها. ويضرب مثلاً على ذلك بالهند. فالإنكليزية الهندية (التي تعد لهجة خاصة من الإنكليزية) هي لغة 4 بالمئة من الهنود لا أكثر.
إن جميع شعوب الأرض تحاول فرض ثقافتها خارج حدودها الجغرافية، كي تتمكن من تعزيز حضورها الاقتصادي والسياسي. وهذا ما فعله البريطانيون والفرنسيون في الماضي، وربما تفعله الصين في المستقبل، وهي تغذ الخطى نحو الدولة الأولى في العالم. لكن من اللافت أن الصينيين لم يسعوا حتى الآن إلى دعم دراسة الماندرانية، وهي اللغة الرسمية في الصين، خارج حدودها الإقليمية. ولم يشجعوا الطلبة الأجانب على التخصص فيها. ولم يقدموا منحاً لأبناء الدول الأخرى، التي تتعامل معهم بكثرة.
في الحقبة الماوية عملت الصين على ترجمة نماذج من الأدب المحلي، ونشره باللغات الحية. ليس رغبة بالتعريف بالثقافة الصينية فحسب، بل لأغراض أيديولوجية أيضاً. مع ما يسببه ذلك من نفور لدى الدول الأخرى، التي تنتمي للمعسكر الغربي. إلا أن هذه المنشورات أسهمت في التعريف بالمجتمع الصيني، الذي كان يعيش عزلة خانقة في تلك الأيام.
ولأن هناك مشتركات كثيرة بين الحضارات الشرقية، فإن الماندرانية ربما تحظى في المستقبل باهتمام خاص، يجعلها تستقطب اهتمام الكثيرين في دول العالم الثالث. فالثقافات الشرقية تقاوم فكرة التغريب التي تنتهجها دول الشمال، وتسعى من خلالها إلى إلحاق الضرر بخصومها الأبعدين.
فهل سنشهد في القريب افتتاح معاهد لتعليم الماندرانية في بلادنا، أو إنشاء أقسام لدراستها في جامعاتنا. وهل سيجد خريجوها وظائف مناسبة تجعلهم يحرصون على الانتساب إليها. هذا ما ستكشفه لنا السنوات القليلة القادمة في أقل تقدير.
محمد زكي ابراهيم