المد والجزر بين الخيال والواقع في رواية «الغول البهيَّ»

إبراهيم رسول

القراءةُ الأوّلى للرواية تُفصح أنّ هنالك معنىً خلف الأسوار أو بين ثنايا السطور، وهذه المواراة أو التخفي وراء أقنعة الكلمات يشير لخطاب موجه ومطرز بأسلوبٍ بلاغي. وكثيراً ما يلجأ الكاتب للبلاغة لينهل منها أساليب بيانية راقية يسبغها على نصوصه لتغدو مغاليق ورموزا بحاجة لمفاتيح لفك لغز الانغلاق. ولعلَّ علم السرد narratolovgy)) يُترجم بكلماتٍ عدة منها: التخييل القصصي (كتاب من الشكلانية إلى مابعد البنيوية، تحرير رامان سلدن- القاهرة طبعة 2006/ 181. ولو تأمل القارئ كلمة التخييل لوجد أن أعلى قيمة للأدب هو الخيال ورمزيته إلى شيءٍ مضمر مستعيناً ببعض أساليب علم البلاغة والبيان ليكون الدال والمدلول واضحاً عند المتلقي. ويرد تعريف آخر للسرد في كتاب التخييل القصص، شلوميت ريمون كنعان ط1 سنة 1995ص 10: بأنَّه السرد المترابط للأحداث التخيلية. ما يطغى على سردية رواية «الغول البهي» لعمار الثويني (دار ميم-2020) هو التناوب بين الخيال كأسلوب بياني والواقعية التي لا بدَّ منها لتناسب منسوب الخطاب القصصي بين ثنائية المد والجزر. فكثيراً ما سار السرد عبر تقنية المحاكاة عن بعد أو الترميز كونه أبلغ من التصريح كثيرا، ولكن الترميز بحاجة لقرائن ودوال سيميائية تجلي المدلول المعني بخطاب الكاتب. نلاحظ مثلاً أن حكاية مدينة الكرامة التي اختارها القاص مكاناً لمعظم الأحداث تشكل متوالية مع باقي عناصر السرد، متوالية رُسمت بإيماءٍ من وحيٍّ خياليٍّ صِرف. ولو تتبعنا الشخصيات في تحركها وتفاعلاتها سنرى القصة ترمز لغاياتٍ في مخيلة الروائي، لكنه خطها بأسلوب أعلى من المباشرة القبيحة، فكان المد الخيالي مهيمناً على كثيرٍ من التفاصيل، مع أن الكاتب يعرف الشخصيات جيداً وأعطى ديناميكية وتفاعلا لكل شخصية دون الخروج عن روح الضبابية المكتوبة بها وروح الخيالية التي نُسجت على منوالها. كان منسوب (المد في السرد الخيالي) أعلى من منسوب الجزر في السرد الواقعي. وهذه حسنة تضاف للرواية كتحفة فنية سلطت الضوء على الإنسان الذي يمر بظروف مختلفة ويُراد منه التكيف مع هذه التغيرات الطارئة والتي أحدثت تغيراً في طبيعته وتفكيره ورؤاه وتصوره إزاء ما يجري حوله.
الرواية الخيالية تعطي للكاتب الحرية والمساحة الواسعة ليفرض رؤاه وتوجهاته وتوجهات شخصياته التي انتقاها بحرية ورسمها بصورة ليُكيِّفها حسبما يشاء. وقد رأينا الكم الوفير من الخيال الذي أعطى للسرد أبواباً كثيرة، فغدا النص مفتوحاً وحمّال أوجهً متعددة. وقد عاب كثير من النقاد الرواية الخيالية وعدوها لا تنسجم وروح العصر الحديث الذي يعيش متوالية متغيرة كل آن. لكن واقع الرواية اليوم أنها صارت تعرف الآلية التي تضعها في مقدمة ما يقرأه الجمهور. ولعلَّ لجوء الكاتب إلى الخيال هو لتوفير الحرية والمساحة الواسعة للتنظير والتأويل عبر تقنية رمزية تلميحية لا تصريحية، فبالتلميح يكمن جمال بلاغة البيان السردي. وأوضح مثال على الواقعية هو: «نال ضياء، إضافة إلى أبو ردين، لقب الكشاخ، بسبب اهتمامه المبالغ فيه في مظهره، فهو يحرص على ارتداء أفخر الملابس عندما يطوي ساعات العمل في معرض السيارات». المتأمل لهذا النص يكتشف الإشارة إلى الشخصية وتفاعلها بصفات واقعية لتبدو جلِّية للمتلقي عبر تقنية رائعة وهي الوصف أو التقرير. قد يعاب التقرير في الوصف لكن الايجاز الذي ذكره وإشارته الخاطفة وانتقاله إلى الخطاب يدل أن الاشارة خاطفة ليمضي السرد بوتيرته الانسيابية. العودة لتقنية المد الخيالي هي ميزة أخرى تضاف للرواية، فلم تحفل بالكثير من الحشو في وصف المتغيرات التي تطرأ على الشخصية، إذ أصبحت الروايةَ الحديثة عملية إبداعية صرفة وتقنية تعتمد اللعب بخفة ومهارة. وكما يقول الروائي علي لفته سعيد: «الرواية حكاية فكرة وليست فكرة حكاية». ولعلَّ مثال الصورة الخيالية وعلى كثرتها سنذكر نصاً واحداً ورد في الرواية: «تزلزلت مدينة الكرامة عندما شق سكون ليلها المشوب بقلق شديد أصوات نياح. لم يكن مقدرًا لهذا الهلع الذي أطبق على ربوع المدينة أن تزهقه تطمينات الحاكم العسكري الذي زار المدينة غير مرة ، ولم تهدهد من روعه تأكيدات قائد الشرطة بأن الأمان مستتب ولم تعد ثمة حاجة بالناس لسلخ ساعات الليل خافرين خوفًا من القاتل المتربص بهم». كان المنهج السردي بين شدٍ وجذب، صعوداً حتى يكاد النفسَ يَخنق المُتلقي وهبوطاً فيستوقفه كثيراً. لم ترتكز تقنية البناء الفني على تقنية واحدة بل اتخذت اسلوبا بنائيا تناوبيا. منح تعدد الشخصيات وكثرة الأصوات الرواية زخماً من تداخل الحبكة، فكانت الحبكة متشعبة بأفرع منتشرة بين فصول الرواية وكلما اقتربنا من الثيمة الأم اجتمعت الثيمات الصغيرة لتشكل مع الثيمة الأم العصب أو العمود الفقري لبناءِ الرواية. إنَّ رواية الغول البهي نشأت على ثيمة واقعية، لكن بهيكلية أسلوب رمزي عبر إطلاق العنان للخيال لرسم وتشييد الاحداث تصاعديا. الكاتب حوّل الرواية إلى نص احترافي وبطابع التجديد والحداثة عبر تقنيات ومراوغة فنية. الرواية اجتماعية في قالبها العام تدرس المجتمع وتشتغل على الجمهور بوساطة عينات تمثل شريحة واسعة. عين الكاتب عين عاكسة ويده يد خالقة، إذ هو رأى الاحداث بعينه وربما ألهمته القصص الواقعية في العراق إبان حكم النظام الشمولي بقوة الحديد والنار، لكن الصور المكثفة والانتقال الكثير صنع تحولات سردية هنا وهناك منحت زخما كبيرا للأحداث. ربما تجدر الاشارة إلى عقدة الرواية من الفصول الأولى إلا أن حلِّها لن يتم حتى تقطع فصولاً طويلة سائحاً، وعابراً للفصول الكثيرة التي كوّنت الأحداث المتتابعة والمتباينة. وكما يقول د. عزيز شكري الماضي في كتابه أنماط الرواية العربية الحديثة (سلسلة عالم المعرفة/ الكويت سنة 2008ص8): «إن التجديد الأدبي بحث دائب عن ادوات تمكن الأديب وتزيد من قدراته على التعبير عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير المستجد.» وبهذا المعنى فإن التجديد في الأدب هو بالتحليل الأخير، حيازته جمالية للعالم أو بحث عن عالم أفضل. فيمكننا حسب هذا التعبير القول إن «الغول البهي» ضرب من التجديد في البناء التقني للرواية العربية، فالعقدة متفرعة ومتشابكة. شخصية سلمان أثرت في الرواية ولعبت دوراً واسعاً فكان أشبه بالداينمو الذي يتحرك عبر محركات واسعة. هذه الشخصية أخذت من السرد مأخذاً كبيراً، وربما لغاياتٍ لدى نفس الكاتب، فسلمان طور الكثير من الأحداث وساعد على نموها بنحوٍ درامي. كلُّ هذا والرواية تستنزف الكثير من القصص الحيّة التي عاصرها الفرد العراقي. كان الاشتغال السردي معنياً بالتفاعل الثنائي بين الفرد المجتمع، الفرد وما يمثله من نزاعات داخلية أو صراعات نفسية أو ما يمثله من مواجهةٍ مع الآخر. الروايةُ مهمةٌ لأنها مكتوبة بلغة أقرب إلى لغة العصر الحديث بمحاكاة حداثوية أسبغت عليها فنية عالية، وهذه الفنية جعلت من النص السردي مفتوحاً لتأويلاتٍ عِدة قد يحتاج المتلقي إلى التفكيكية ليحلل ويفسر بعدها، لكنها تتطلب قارئاً شغوفاً بلعبة المغامرات والمتاهات والمفاجئات. فالرواية قد ضمنت الكثير من الأمور التي تفتح شهية المتلقي ليمارس اللعب مع الكاتب، وبذلك بلغت مرحلةٍ عالية من النضج والرُقيّ فكانت نصا مشبعا بمأساة الإنسان الذي يخرج من حرب شرسة ليدخل حرباً أشرس وأقسى، ويغادر حربا دمويةٍ إلى حصارٍ اقتصادي مقيت كما حصل في عراق 1991 وما بعد 2003. لكنه تغيير في جانبٍ ومأساة وويلات في جوانبٍ أخرى. السؤال الذي يثير في ذهن المتلقي متى ستكون هنالك راحة حقيقية لهذا الفرد الذي عاش وانصهر بدواماتٍ كثيرةٍ؟ الكاتب كتب الألم والجرح وقد نجح في تسليط الضوء على نواحٍ كثيرةٍ اجتماعية وسياسية وتاريخية… لكنه ترك الفضاء واسعاً للمتلقي ليتلقف من الرواية ما يشاء دون أيةِ إجابةٍ واضحةٍ أو خارطةٍ لرسم مستقبلٍ لهذا المواطن الذي خرج من حربٍ بشعةٍ ليدخل بأخرى لا تقلُ عن الأولى قسوة وألما. الرواية تساير إنسانا شهد وعايش نظامين كلاهما سيء ولكل منهما ميزة خاصة بكيّفية السوء والقبح.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة