الخوّاف

نهى الصرّاف

ثمن فاح بالتأكيد أن تتحول من متسكع، في شارع مزدحم، إلى مجرد جثة هامدة تُدفن في عمق بعيد من الأرض، فلا يحضر وداعك الأخير سوى رجال غرباء بملابس سميكة، يغلفون أجسادهم بالأقنعة والقفازات، ويرشّون أنفسهم بالمطهّرات، بينما يُحفظ جسدك الهامد بطبقات متعددة من البلاستيك التي لن تسمح لروحك – بالتأكيد – التحليق إلا لمسافة قصيرة.. تعود بعدها كحارس ليلي يجول حول القبر الوحيد وصاحبه الوحيد الذي مات بلا أهل ولا خلّان.

كل هذا الهذيان ظهر اليوم في صحيفة الصباح؛ قائمة بالمحظورات من أفعالنا اليومية التي يمكنها اجتذاب عدد غير متناهٍ من فيروسات كورونا اللزجة، مجرد تمرين في النادي الرياضي، أو التعثر بحفل موسيقي ومركز صغير للتسوق، وحتى زيارة قصيرة لحانة في آخر الشارع، مغامرة يومية يمكن أن تسمح بالتصاق دزينة كوفيدات على جسد صاحب الحظ المصخّم، يحصل بعدها بطرفة عين القدر على لقب ضحية في مدة قصيرة قد لا تتجاوز بضعة أسابيع، يقضيها تحت ثقل جهاز التنفس الاصطناعي الذي يمنح نفحات قليلةً من الأوكسجين مقابل تمزيق بعض أحشاء الجسد.

هذا السيناريو لا يمكن أن يكون نهاية مناسبة لعزيز الخوّاف.

عزيز، رجل ستيني.. مال أول، وإلى جانب خوفه الأزلي من المستقبل الملتبس، فهو كسول لدرجة فظيعة، حتى أنه عندما ينادي على حفيده رياض يقول: ريااااااااا ويسكت، فيمازحه شقيق زوجته الرابض على قلبه كالصخرة “عمّي هذا اسمه رياض وين الـض؟.”

يرفع عزيز حواجبه المخربطة ويجيب باستهانة “ما بيّه حيل أكمل الاسم للآخر، المهم الولد من بعيد يسمع اسمه كامل بالصدى.. عبالك جاي أكَول ريااااض.. بعد ليش اتعّب نفسي”.

الصدى مهم جداً في حياة صاحبنا الخوّاف، فهو يستيقظ صباحاً على الصدى المعاكس الذي يحدثه طنين أذنيه، بعد أن يرفسه رياض في وجهه من غير قصد في واحدة من تثاؤبات جسده الغض. فالمنزل منذ سنوات صار مكتظاً بالأقدام والأذرع والرؤوس الكثيرة، ومن المتوقع أن تشتبك هذه الأعضاء البشرية في أيّ لحظة على سفرة الطعام أو في مكان النوم الضيق.

يفرك الجد الكسلان عينيه ببطء شديد، وحالما تقع نظراته على المشهد الضبابي المشوّش يبدأ بإطلاق حسرته الصباحية الأولى؛ ابنة أرملة مع ثلاثة أطفال، أربع بنات صغراهن في سن الثامنة، ولد في مطلع سن الشباب بقدم اصطناعية، وحين يجرّ قدميه إلى الشمال قليلاً يمكنه أن يطلق حسرته الثانية بثقة أكبر بعد أن يلمح بقية أجساد أفراد الأسرة الكبيرة؛ الزوجة النحيفة التي لا تشغل عظامها حيزاً كبيراً من زاوية الغرفة الملحقة، تأتي خلفها الجدّة والخال والخالة، ضيوف عزيز الأبديين منذ أن “تزحلقت أقدامه في وحل الزواج”، هذه هي جملته المفضلة التي واظب على ترديدها بعد مرور سنة واحدة فقط على زواجه، كان قد سمع الكلمات الغريبة من فم رجل مثقف – نصف ردن – في مقهى ارتاده في أيام شبابه الأول عندما كان يسكن في منزل والديه في بغداد الجديدة، يأكل وينام جيداً. مع ذلك، فهو يخاف كثيراً على مصائر هذه الكتلة البشرية التي تتعلق بتلابيب روحه الفقيرة، فكيف سيوفّر طعام الأحفاد اليتامى وكسوتهم السنوية؟ من أين سيحصل على صوبة مستعملة بثمن معقول ليسد بها ثقوب البرد القادم؟ وهل سيقوم بواجب دفن حماته إذا ما قررت أن تغادر فجأةً، ويهيّئ مصاريف الفاتحة في وقت مناسب؟

أصبح السبب واضحاً الآن، فقائمة محظورات فايروس كورونا لا تعني شيئاً لعزيز، فهو لم يصادف أن مرّ بنادٍ رياضي أو داست قدمه عن طريق الخطأ باراً أو حتى مطعماً شعبياً بسيطاً، أما الحفلات الموسيقية فلم يسمع بها في حياته مع أن أذنيه ما زالتا تطربان على أغاني ياس خضر، التي يسمعها في جهاز راديو صغير استطاع أن يحتفظ ببقاياه في زاويته المفضلة من المنزل المكتظ بالأرواح البشرية، لكنه يتذكر بين حين وآخر أغنية “عزيز يا عزيز” التي غنتها صباح في أيام شبابه.. حتى أن جزءاً لذيذاً من الأغنية ما زال عالقاً في رأسه المزدحم بالهموم، حين كانت ابنة الجيران تغسل مدخل الدار يومياً بالماء والأغاني، وترسل معها مقطعاً مجانياً للشاب عزيز، الذي كان يقضي معظم أيامه ملتصقاً على حائط السطح، يتنصّت للأغنية وهو غير مصدق بأن ابنة الجيران تتقصد يومياً أن ترفع صوتها مع المقطع الذي تقول فيه صباح.. “عزيز يا عزيز الحب شو لزيز.. كرمالك يا عزيز كرمالك يا عزيز”.. كرمالك أغسل مدخل الدار يومياً على أمل الفوز بنظرة إعجاب! هكذا كان مقطع الأغنية يتمدد في أحلام عزيز. لكنه لم يتّخذ قراره بمغادرة حائط السطح والنزول إلى الشارع إلا بعد مرور يومين على غياب صوت الجارة. كانت أسرتها قد غادرت الدار إلى غير رجعة، فلم يتركوا خلفهم سوى مدخل مشطوف جيداً وصفعة نفسية، تلقتها روح عزيز برحابة صدر.

راح الرجل الستيني يتطلع في صفحة الجريدة مرةً ثانيةً باهتمام كبير وهو يحك ذقنه، بينما تصفق الصحون والأقداح في المطبخ استعداداً لوجبة الفطور. نقل الخوّاف عينيه بحذر إلى حفيده الذي بدأ يستيقظ بتململ على صوت الجلبة في المطبخ، وقرر أن يكلفه بالمهمة الصباحية الأولى:

– روح ريااااااا خلي أمك تصبلي استكان جاي

– صار جدو

يسرع الولد الصغير لتنفيذ الأمر وهو لا يزال يتثاءب حتى أن فتحة فمه اتسعت على مصراعيها مثل فتحة كيس طحين، في محاولة لسحب أكبر كمية ممكنة من الهواء.

إلى هذا الحد بالذات، يمكنني أن أتطلع بحذر إلى نهاية القصة.. قصة صاحبنا الخوّاف، الذي يعيش منذ عقد محشوراً بين أفراد أسرته الممتدة إلى ثلاثة أجيال، لكني ما زلت حائرةً هل أنهي حياته بإحدى مضاعفات إصابته بفايروس كورونا أم بسكتة قلبية مباغتة؟

يا للعجب، وكأن هناك سكتات قلبية غير مباغتة ترسل مخطوطاً لصاحبها بتفاصيل زياراتها التي ستقوم بها وزمانها.

علاوة على ذلك، لا شيء مباغت في عيشة عزيز المليئة بالنكد. كل الشرور التي أصابته في حياته كان مخططا لها بصورة جيدة؛ ولادته فقيراً، تعليمه الذي لم يتسنّ له إكماله بسبب موت والده المبكر، المنزل الذي لم يمتلكه بسبب نوبات عمله غير المستقرة، العمل في مهن بسيطة ومرهقة ولا تدرّ مالاً بسبب سوء الطالع، أفراد أسرته المتكوّمين بين أربعة جدران في حي العامل لا يمتلك منها شبراً واحداً، ترمّل ابنته الكبرى بعد رحيل زوجها في حادث تفجير، القدم الاصطناعية لولده الوحيد التي ربحها في جبهات القتال، حتى والدة زوجته المسنّة التي رفضت أن تموت واستطالت سنوات عمرها كخيوط العنكبوت كناية به، كان حكاية أخرى مرسوما لها جيداً كي تنغص عليه عيشته.

في صحيفة الصباح، راجع عزيز الخبر المتعلق بفايروس كورونا، التعليمات والتحذيرات والقائمة طبعاً، المطاعم والبارات والحفلات الموسيقية، وبدأ يتململ في جلسته وهو يتناول استكان الشاي الأول الذي أعدّته ابنته الأرملة بوجهها المقلوب. ارتشف قليلاَ من السائل الداكن وهو يصدر الصوت الوطني لارتشاف الشاي، لكن شفتيه التصقتا فجأةً على حاشية الاستكان الزجاجية بعد الرشفة الثالثة، حيث شدّه قليلاً الوصف الذي تفنّن فيه محرر الخبر في ما يخص طريقة دفن موتى الفايروس. “تدفن في عمق بعيد من الأرض، فلا يحضر وداعك الأخير سوى رجال غرباء بملابس سميكة يغلفون أجسادهم بالأقنعة والقفازات، ويرشون أنفسهم بالمطهرات، بينما يلف جسدك الهامد بطبقات متعددة من البلاستيك ويُعمّد بالمطهرات، وتدفن بعيداً في أعماق الأرض، بعيداً، بعيداً، فلا يحضر وداعك سوى غرباء، بملابس غريبة ورائحة غريبة..”.

– آآآآه هذه فاجعة.. مصيبة جبيرة!

كانت هذه الكلمات الأخيرة للرجل الذي كان يرتشف استكان الشاي في منزل الإيجار الذي تسكنه كتيبة من البشر موزعةً على ثلاثة أجيال، بعدها أسلم الروح من دون مقاومة. مات من الخوف، بعد أن أكله القلق طوال شهور من أول بدء انتشار الوباء في الصين، وحين تمكّن منه كان قد وصل بالفعل إلى نهاية الخبر في الجريدة، حيث تكفّل محرر الأخبار بإنهاء حياته بمجموعة من الكلمات الملغومة.

*عن مجلة الجديد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة