أسطورية القناع وحمولاته الجمالية

“صحيفة المتلمس”

أشرف قاسم*

ربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الشعر في أبهى تجلياته هو التعبير عن الإنسان في شتى حالاته، دون تزيد أو مبالغة، وفق إيقاع شعري يصنع اسطورته الخاصة من خلال ارتباطه بالإنسان.

في بداية ديوانه البهي(صحيفة المتلمس) يكتب عبد الأمير خليل مراد تعريفاً موجزاً بالمتلمس، والمتلمس هو جرير بن عبدالمسيح بن عبدالله بن دوفن بن حرب .. شاعر جاهلي، وخال الشاعر طرفة بن العبد، وقد هجيا الملك عمرو بن هند بقصيدتين، فاستدرجهما إلى مجلسه، بحجة منادمته وهو عازم على الغدر بهما، ثم أرسلهما إلى عامله على البحرين بكتابين يحملان أمر قتلهما، وانكشفت حيلة الملك للمتلمس، فنصح ابن أخته بالهرب، لكنه لم يصدقه، فقتل طرفة،  وقذف المتلمس بصحيفته في نهر الحياة، وراح هارباً إلى بني جفنة ملوك الشام، بعد أن عرف ما خبئ له في هذه الصحيفة من مصير، فنجى.

ومن هنا يركز الشاعر الكبير عبد الأمير خليل مراد كادره على قراءة اوجاع المتلمس/الإنسان/ وآماله في الحياة، دون إغفال الجوانب الجمالية والفنية في التعبير.

أول ما يلفت نظر المتلقي في هذا الديوان تلك اللغة الدرامية، وما تحمله من مدلولات أعمق بكثير مما يتوقعه المتلقي، وذلك من خلال فلسفتها الخاصة للأحداث، وتنوع أساليب التعبير التي تشكل لحمة النص الشعري، وتجعله مغايراً في دواله وفضاءاته المختلفة:

في حد العتمة أنقش بؤس الكلمات

في جسد الشاعر أبحث عن حرف

يشبه أحلامي

في جسد الحرف أرى روحي

تتقطر كالضوء على

رمل الطرقات! ص 40

كما تصطبغ نصوص الديوان بالتساؤلات التي يحاول الشاعر من خلالها إثارة الفضول المعرفي لدى المتلقي من ناحية، والإجابة عن سؤال الوجود وماهية الإنسان ومصيره من ناحية أخرى.

تلك التساؤلات التي تشير بوضوح إلى معاناة الشاعر/الإنسان/ في عالم معقد، تستعصي رموزه على فهم البشر.

والسؤال يستدعي المعرفة، وغايته الوصول إلى الحقيقة:

ألف الآن في نبضها

وهي توقد في الحرائق

هذا دمي لم يزل حرما للغبار

وذي رئتي تتنفس طعم الحروف

ولا أشتهي غير نيرانها

كم ندور الطريق معا

وأنا ألقف الجمر في شفتي

حيث لا أول الدرب ٱخره

لا ….

ولا آخر الدرب أوله

تتقاطع كل الخطوط

فهل نلتقي؟ ص 93

من الملامح الرئيسة أيضاً في نصوص عبد الأمير خليل مراد في هذا الديوان تلك التقاطعات النصية مع التراث، بدء من توظيف الرمز والأسطورة، بما يحمله من قيمة ودلالة وتأثير من خلال توظيف الشاعر اللائق لهما في النص ما يكسب النص عمقا وجمالا ودهشة.

إن الغرض من توظيف تقنية القناع هنا من خلال شخصية المتلمس أن يربط الشاعر بين الأمس واليوم، ويستلهم عبر توظيفها روح الموروث التاريخي والشعري، مسقطا قناعه على الوضع الراهن الذي يمر به وطنه الممزق، معبراً من خلالها عن رؤيته الذاتية لواقع أمته متجردا من ذاتيته في ذات الوقت، مستشرفا الآتي:

كم مر من الأزمان

وأنا كصياد يبحر في المخطوطات

( مخطوطات للحب وأخرى للموت )

أحصي المدن الباقية ( بابل، دلمون، الحيرة، سومر، واكد)

والمدن الزائلة (نحن )

وتاريخ الأشخاص (ملوكا، صعاليك، غلاة، شعراء )

من كلكامش إلى عبدالأمير و .. و .. و

( ولا تاريخ إلا تاريخ الأشخاص)

أتهجى أبراجي بكآبة

كأنني على شفا حفرة من هذا العالم

أقف..!

(وما في الموت شك لواقف)

أتأمل أنقاضي ببراءة طرفة بن العبد

فلا أرى غير حاطب تلوكه حوافر العنقاء

ورأسي كمدية في خاصرة حبلى

(يتدلى)

رأسي الخارج من أبحديات الشرق

( يتدلى)

كقشة على سارية القلعة ص 80/81

وتوظيف الرمز والاتكاء على الموروث بتراثيته وأسطوريته ومدلولاته وحمولاته الجمالية هو أحد أهم مظاهر الحداثة الشعرية، إذ يرفع من قيمة النص، ويمنحه روحا متجددة تتجاوز الأطر والقواعد، بل وتصنع لنفسها أطرا خاصة مغايرة، فنراه نصا حيوياً بعيداً عن الغموض والإبهام منفتحا على التأويل، قابلا لتعدد الرؤى، غنيا بطاقاته الإيحائية وأبعاده الدلالية والجمالية.

ومدار الأمر هنا هو حسن توظيف هذا الرمز داخل المتن الشعري، وإلا صار مجرد حشو زائد وحمولة لا فائدة منها، تجعل النص مترهلا.

وقد نجح عبد الأمير خليل مراد في توظيف الرمز والأسطورة بغرائبيتها في نصوصه، متكئا على البعد الوظيفي للنص الشعري على اعتبار أنه لسان حال أمته وحارس القيم العليا، ملتزماً بقضايا الأمة، موجهاً إليها رموزه وأقنعته، معبراً عن معاناتها، محافظا بذات الوقت على جمالية نصه وفنيته، مبتعدا عن المباشرة والخطابية، موقدا جذوته لينير الطريق للعابرين إلى غد أكثر إشراقاً:

من بين أصابعه تنبجس الأسماء

يكتب عن نيرودا .. لوركا .. وابن العربي

ويرصع رف الغرفة بالصفوة والشعراء ص 39

قالوا:

مازالت للعشق بقايا

وأصرح:

مازالت للعشق رؤوس

تصحو والحجاج يقلبها

وبقارب ليل منحوس

يقذفني لتخوم الموت الأزرق

يشعل في عيني كوابيس

المتنبي .. سقراط

المعري الحلاج .. السياب

ودعبل ص 66

كما يهتم الشاعر اهتماماً واضحاً بالتشكيل البصري في صنع صورته الشعرية، وهو ما يمنح لغته حساسية وأبعادا رؤيوية مختلفة، تجعلها لغة طازجة معبرة عن مكنونات النفس، دالة دلالة بصرية -من خلال الصورة الشعرية- ودلالة صوتية -من خلال تعدد الدلالة- ، وهذا التزاوج الذي يصنعه الشاعر بين الصورة والحرف هو الذي يمنح نصوصه انفتاحها على تعدد التأويل، ويجعلها ثرية بإيحاءاتها ورموزها:

يتدلى من خاصرة النبع الماء

ويولول في صدر الطائر عطش الصحراء

يهبط في الزحمة مرتبكا

لا ناي يكفكف ٱهته

لا ريح تجرجر سورته

آه لو يقطف من هذي الروح سلافتها

ويؤالف ما بين الجمرة والأنداء ص 26

نقرأ صحيفة المتلمس في هذه النصوص المترعة بالجمال فيقرأ كل منا صحيفته وسيرته الذاتية بكل ما تحمله من ألم وأمل ومعاناة وترقب لما قد يجيء.

*كاتب من مصر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة