في ذكرى ميلاد الامام الباقر (ع)

  • 1 –
    في الاول من رجب سنة 57 هـ أطلَّ الامام الباقر (ع) بدراً في سماء الامامة، وتلألأت انواره الساطعة كوكباً خامساً من كواكب العترة الطاهرة، الذين ازدادت بهم دنيا الرسالة، كما جسّدوا بمساراتهم قِيمَ الاسلامِ العظيم بِكُلّ ما انطوت عليه من سمات وعظمات …
  • 2 –
    ولد الامام الباقر (ع) في المدينة المنورة، وقُدّر له أنْ يشهد منذ مطلع حياته الفواجع والرزايا التي حلّت بأهل البيت (ع) ، وأكبرها على الاطلاق مأساة عاشوراء، تلك الرزية الكبرى التي لا تماثلها رزية، واصطبغت حياتُه بلونٍ قاتمٍ حيث توالت المحن في ظل النطام الأموي الغاشم، الذي حوّل الاسلام الى مُلْكٍ عضوض، يحكم فيه المارقون بأهوائهم،بعيداً عن كل الموازين والقيم الاسلامية وكانت قصورهم وموائدهم تغص بكل ما حرمه الله من فجور، كما سلّطوا عُتاةَ الولاة على المسلمين يسومونهم سوء العذاب .
  • 3 –
    لقد آلت اليه الامامة بعد وفاة أبيه الامام زين العابدين (عليه السلام) ونهض بأعبائها، في جَوّ مشحون بالاضطهاد السياسي للاحرار والحرائر من جانب، وبالأفكار والنزعاتالشاذة من جانب آخر، فكان عليه أنْ يتصدّى لِمُقارعة كلِّالوان ذلك الانحراف .
    وهكذا كان .
    وجاء في الاخبار أنَّ النبي (ص) أخبر الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري – وهو ثُمالة الصحابة – انه سيرى رجلاً مِنْ وُلْدِهِ هو أشْبَهُ الناس به، وَاَمَرَهُ (ص) أنْيُبلّغه السلام .
    فكان جابر بن عبد الله كثيرا ما يهتف في اروقة المسجد النبوي الشريف:
    يا باقر علم آل بيت محمد
    وحين أُتِيحَتْ له فرصةُ المثول بين يَدَيْ الامام الباقر (ع) بادَرَ الى التشرف بتقبيل يديْ الامام وإبلاغه السلام الصادر مِنْ جَدّهِ الرسول (ص).
    واليك بعض ما قيل فيه :
    قال ابن الجوزي في التذكرة :
    ( ما رأيتُ العلماء عند أَحَدٍ أصغرَ علماً منهم في مجلس ابي جعفر الباقر (ع) )
    وقال النوري في مرآة الجنان :
    ( محمد بن علي بن الحسين القرشي الهاشمي المعروف بالباقر ،
    سمّي بذلك لانه بَقَر العلمَ أي شَقَّه فَعرَفَ أصلَهُ وخفاياه … )
    وقال ابن العماد الحنبلي في الشذرات
    ( قيل له الباقر : لأنه بَقَر العلمَ وتوّسَعَ فيه وعَرَف أَصْلَه )
    وقال عند محمود بن عبد الفتاح الحنفي في كتاب جوهرة الكلام –
    ( هو مَنْ أَظْهَرَ مِنْ مُخبّآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكمة واللطائف ما لا يخفى على منطَمس البصيرة ،
    ومن ثم قيل :
    هو باقر العلم وجامعه ورافعه ، صفا قلبه ، وزكا عمله وعلمه ، وطهرت نفسه وشرفُ خلقُه ، وعمرت أوقاته بطاعة مولاة)
    لقد نهض الامام الباقر (ع) بأعباء الزعامة العلمية بعد أبيه،واستطاع أنْ يُقيم دعائم جامعةٍ إسلاميةٍ كبرى في المدينة المنورة، اتسعت لأكثر من أربعة آلاف منتسب من شتى ارجاء الوطن الاسلامي الكبير
    ومن هنا قال فيه الشاعر :
    اذا طَلَبَ الناسُ عِلمَ القرآن
    كانت قريش عليه عِيالا
    وإنْ قيلَ أينَ ابنُ بنتِ النبيِّ
    نلتَ بذاك فُروعاً طِوالا
    نجومٌ تهلل للمدلجين
    جبالٌ توّرث علماً جبالا
    ويكفينا هنا الاشارة الى أنَّ تلامذة الامام الباقر (ع) كانوا من أعظم وأبرز الفقهاء من أمثال ابان بن تغلب ، وزُرارة بن أعيْن ومحمد بن مسلم الثقفي …
    انّ محمد بن مسلم الثقفي وحده سأل الامام الباقر عن ثلاثين ألف حديث فما بالك بالاعلام الاخرين ؟
    الامام الباقر يقطع حجة الخوارج
    جاء نافع بن عبد الله الأزرق لمناظرة الامام الباقر (ع) فذّكره الامام (ع) بقول رسول الله (ص) لامير المؤمنين يوم حنين
    ” لاعطيّنَ الرايةَ غداً رجلاً يُحبُ اللهَ ورسولَهُ ويحبه اللهُورسولُه ” وقال له :
    أخبرني عن الله سبحانه أحَبَّ عليّاً يوم أحبّه وهو يعلم انه يقتل اهل النهروان أو انه لا يعلم ؟
    فسكت الازرق ولم يعرف بماذا يجيب ،
    فان قال :
    بأنَّ الله لا يعلم فقد نسب اليه الجهل ،
    وإنَّ قال :
    بأنه يعلم، فاذا لم يكونوا مستحقين للقتل يكون عليُّ بن ابي طالب قد ارتكب خطا كبيرا وظلما فاحشا بقتلهم، فكيف أحبّهُ الله وهو ظالم لعباده ؟
    والله لا يحب الظالمين المجرمين ؟
    فخرج الازرق مهزوماً مخذولاً
    شذرات
    سئل (ع) عن معنى قوله تعالى
    ( يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقتُ بيدي )
    سورة ص /75
    فقال (ع) :
    اليد في كلام العرب القوة والعظمة
    قال سبحانه
    ( والسماء بنيناها بأيدٍ ) اي بقّوةٍ .

ويقال لفلان :
عندي أيادٍ كثيرة ، أيْ فواضل واحسان ، وله عندي يَدٌبيضاء : اي نعمة.
اقول :
انّ اليد يمعناها المادي تستلزم التجسيم، وهذا ما ينّزهُ عنه الربُّ العظيم، فجاء حواب الامام باهراً واضحا ، قطع دابر الأوهام بأجلى بيان،
وسئل (عليه السلام) عن معنى قوله تعالى : ( من يحلل عليه غضبي فقد هوى)
طه /81
ما ذلك الغضب ؟
فقال عليه السلام :
الغضب هو العقاب ،
من زعم انّ الله عز وجل زال من شيء الى شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين
انّ الله لا يستفزهُ شيءٌ ولا يغيره شيء
وجاءه محمد بن المنكدر –صاحب النزعة الصوفية – ورآه متكئِاً على غلامين له في ساعة حارة في بعض نواحي المدينة فقال له :
” شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا ،
والله لأعظنَّهُ ، يقول :
فدنوتُ منه وسلّمت عليه ، وقد تصبَبَ عَرَقَاً فقلتُ :
أصلحكَ الله ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مِثْلِ هذه الحالة في طلبِ الدنِيا، لو جاءك الموت وانت على هذه الحالة !!
قال :
فخلّى عَنِ الغلامين يديْه ثم تساند وقال :
لو جاءني والله الموتُ وأنا على هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة مِنْ طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس ،
وانما كنتُ أخاف الموت لو جاءني وانا على معصيةٍ مِنْمعاصي الله
فقلت :
يرحمك الله أردتُ أنْ اعظَكَ فوَعظْتِنَي “
لقد كان ابن المتكدر مسكونا بحب التقشف ، وخيّل له أنّه يستطيع أنْ يُحرج الامام الباقر (ع) بسؤاله ، ولكنه انصرف مخذولا مهزوما
والمهم :
ان الامام الباقر (ع) شدّد على الحذر من معاصي الله .
وهنا يكمن الدرس البليغ .
ولا يدري الواحد بنا متى سيغمض الموتُ عينيْهِ فكيف يُقبل على معاصي الله دون وَجَلٍ من ربه، مع انّه قد يُدعي للرحيل وهو متلبس بالمعاصي، فكيف تنجو من نيرانه ؟
انها دعوةٌ الى التمسكِ بأهداب الفضيلة، والعمل الصالح،والبُعْد عن مستنقعات العصيان والتمرد على الله، وكفى بها وصيّةً عظيمة جامعة لخير الدنيا والآخرة .
وسلام على الامام الباقر (ع) يَوَمَ وُلِدَ ، ويومَ نَهضَ بأعباء الامامة والزعامة الرشيدة الصالحة فَبّثَ علومه وهْدَيَهُوملأ الدنيا بمواعظه البليغة ودروسه الثمينة .
ورزقنا الله وإيّاكُم السيرَ على منهاجِه، والثبات على ولايته
وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ لله رب العالمين .

حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة