الهمّ الانساني.. المحرّض و الرّمز في تاريخ الادب

هدى الهرمي*

لطالما كانت للكوارث و الأوبئة على مرّ التاريخ تداعيات مختلفة أثّرت على المجتمع البشري منذ أول وباء اجتاح العالم عام 430 قبل الميلاد و فتك بأرواح الملايين من سكان المعمورة، فخلدتها الذاكرة الأدبية في مؤلفات الشعراء و الروائيين و لوحات الرّسامين.
لقد ألّف الشاعر جيوفاني بوكاتشو، و هو أحد رواد الادب الايطالي و كاتب عصر النهضة المبكّر، رائعته ( ديكامرون) و بدأها بوصف الطاعون الأسود و الكوارث التي حلّت بمدينة فلورنسا ثم روما و كافة أرجاء ايطاليا. أما الشاعر العظيم دانتي الليغيري، الذي صنع لسان الامة الايطالية، فقد ترك أقوى أثر أوروبي في العصور الاوسطى، وهي قصيدته السرديّة او بالأحرى ملحمته الخالدة ( الكوميديا الإلهية ) التي كتبها بين عامي 1308 _ 1321 ميلادي و مكوّنة من مئة فقرة شعرية.
و كانت اجمل كتابات الشاعر و الكاتب المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير، أثناء تفشّي الوباء في نهاية القرن السادس عشر و الذي أودى بحياة عدد من افراد اسرته.
كما حفر الطاعون في ذاكرة الأدب العربي على مدى القرون المتلاحقة و أتاح للشعراء مخزونا استثنائيا من الاستيعارات الدراميّة و ادماجها في قاموسهم الأدبي، لتعبر الأزمنة و تشكّل العنصر التراجيدي المؤثر الذي حمل خُلاصة الوجع الانساني، رغم الأسس الجمالية التي اسندت اليها.
فكانت دليلا ناصعا على مدى المأساة التي من شأنها أن توقظ ذاتية الشاعر، ليستلهم منها ملحمة شعرية تتجلّى فيها بشاعة الموت و الخراب و هو يسبك تلك الاعمال المحفوفة بوشائج ميتاواقعية.
و لم تكن محاكاة التجارب الاليمة للبشر شيئا معيبا او شاذّا، بل كانت تلك الأعمال الادبية تحفل بالاستغراق في دقّة التعبير، لتصوغ قالبا فنياّ لا يغفل عن التجلّي الحرّ و التغلغل في المعنى، فكان أثرا أدبيا يرقى الى رؤية ما لم يتسنّ للقارىء رؤيته.
و عن حساسيّة الشعراء ازاء الألم و الوباء، نجد نصّا بالغ الأهمية لابي الطيب المتنبي، حين كان بأرض مصر فقال أبياتا عن حمى وباء انتشرت انذاك. يقول في قصيدته الشهيرة :

زائرة الليل

و زائرتي كأن بها حياء
فليس تزور الا في الظلام
بذلت لها المطارف و الحشايا
فغافتها و باتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي و عنه
فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعة سحام
اراقب و قتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام

و ممن كتبوا معاناتهم مع « الموت الأسود» ، و خلّد قصّة صراعه مع الالم، الشاعر عمر المعرّي الكندي و المعروف بابن الوردي الذي عاش في بلاد الشام و توفيّ بالطاعون اثر اجتياحه العالم من آسيا الى الشرق الأوسط ثم اوروبا، و ذلك خلال منتصف القرن الرابع عشر، فيقول في هذه الأبيات :

يا أيها الطاعون ان حماة
من خير البلاد و من أعز حصونها
لا كنت حين شممتها فسمّمتها
و لثمت فاها آخذا بقرونها

ان وجود أدب الوباء لم يقتصر على تحليل الظواهر و رصد حصيلتها، بل ثمّة صور فنيّة خارج سياق المأساة و منطق العزل. ان ضرورة الأدب بمختلف أجناسه في اعقاب كل وباء تنضج و تستنفر تلك المؤثرات الحسيّة في جملة النصوص و القصائد، كأنها ابتهالات و ملاحم تدمغ الذات الانسانية، فكانت وظيفة الشعر و السرد معا هي اضفاء المعنى في ذلك الفراغ الشاسع الذي تركه الوباء.
هكذا يغدو الأدب ورشة بناء لعالم جديد على الانقاض المأساوية، ليكون شاهدا موثوقا به، حتى و ان كان معزولا، لانه يرسم الانعكاس الحقيقي لهشاشة الانسان في زمن المعاناة.
علاوة على ما سبق، تفاعل الشعراء و الفنانين و توثيقهم لتلك الفترات المظلمة من التاريخ، يدحر فرضيّة انصرافهم عن شأن العموم و اتهامهم بالانكفاء في زاوية مغلقة، اذ يعجز الكاتب ان يركن طويلا في الحيّز الحميم، لاستبعاد هذا التشكيك في عيار الشعر و كسر حاجز الفردية، بل ترسيخ لهذه التفاعلات الانسانية التي تنصهر في النهاية ضمن بوتقة تشكيل نص ابداعي ناتج عن المخزون المشترك، لكن دون أن ينأى عن صوته الخاص و بصمته المنفردة.
و قد كان ذاك التفاعل هو ما يشكّل حالات التعبير الصريح و يشدّ اللغة الى ايقاع دلالي يكشف قدرة الشاعر على الانفصال بذاته، و بلورة طاقاته التعبيرية في تأمّل مضافات الحزن البشري الناطق عن شتّى الأحاسيس الانسانية زمن الوباء. هذا ما رسخته قصيدة ( الكوليرا) للشاعرة و الاديبة العراقية نازك الملائكة التي تركت بصمة واضحة في الأدب العربي.

الكوليرا

سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ

لقد ترجمت نازك الملائكة هذا الفيض من المشاعر نحو مصر، حين داهمها وباء الكوليرا عام 1947، و جسمّت حزنها و وجعها في قصيدة رسخت في التراث الانساني و في ذاكرة الأدب العربي، فكانت بمثابة سجلّ تاريخي يصف الموت كغزو خلّف وراءه مأساة فادحة في تلك الحقبة.
و قد شاع الوباء في قصائد العديد من الشعراء العرب منذ مطلع القرن العشرين فتحوّل الى رمز مُغلّف بالموت و الابادة. و مهما كان الرمز ضاربا في التاريخ فقد اضاف طابعا شعريّا و فنيّا لتعرية الذات المبدعة و كشف المساحات المظلمة والقاتمة التي انبثق منها النص الشعري.
و لعلّ الأمر يظهر جليّا في قصيدة (الطاعون) للشاعرة الفلسطينية فدى طوقان، التي توّلت إماطة اللثام عن صورة المحتلّ، و أفاضت فيها الجانب الاستعماري الأكثر قتامة من الطاعون، بوصفه رمزا للانكسار جرّاء فتكه بالشعوب.

الطاعون
يوم فشا الطاعون في مدينتي
خرجت للعراء
مفتوحة الصدر الى السماء
أهتف من قرارة الأحزان بالرياح
هبّي و سوقي نحونا السحاب يا رياح
و انزلي الأمطار
يظهر الهواء في مدينتي
و تغسل البيوت و الجبال و الأشجار
هبّي و سوقي نحونا السحاب يا رياح
و لتنزل الامطار
و لتنزل الأمطار
و لتنزل الأمطار

و من الواضح أن الأوبئة اتاحت للشعراء معجما جوهريا في إلحاحات النزيف الانساني و محرضات للذاكرة لرصد نسغ عميق حيث تنوجد العاطفة، لينطوى النصّ على صور ميتاواقعية، لكنه لا يتقاطع مع البوح المؤلم للذات المبدعة، و ينقل الضوء الحميم في علاقة الشاعر بالآخر، و ذلك سبرا للأحداث و ذكرياتها المؤثرة عامّة. و بالتالي فهي رحم ثانٍ تتشرنق فيه شتى الأحاسيس المشحونة بالوجع، فتمظهرت القصائد شبيهة بالملحمة التاريخية و تدفقاتها التعبيرية عن تراجيديا الحياة.

  • كاتبة من تونس

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة