علي لفتة سعيد
لاسمه موقع الموسيقى أو إيقاع قصيدة حديثة، أو تركيب متوهج من تزجيج المرايا، أو أنغام بلابل في بساتين من روض وجنان .. أسمه ينطق عن الإبداع ولا ينطق عن البوح، فيكون معلما مهمّا من معالم الأدب العراقي، فيغوص بعيدا في الشعر ويعتليه مسرحا ويلوّح له إبداعا .
محمد علي الخفاجي الذي يتردّد اسمه في الآفاق رحل عن الدنيا وظلّت آثاره الإبداعية تلاحقنا بملامحه عنوانه ووجوده وبقائه وديمومته، كأنها لحظة خلودٍ انطلقت من كربلاء، لتتّسع الى البلدان العربية، وتعود الى كربلاء محملة بذلك الفيض الكبير من التوهّج، وهي تحمل الجوائز معها كتقديرٍ أولي لميثاق الاستمرار .. وكأنه كلما عطش عاد الى المكان ليغترف منه أثر الشوارع والأرصفة والمقاهي والأصدقاء والتلاميذ الذين درسهم والطلبة الذين صافحوا حروفه فانطلقوا من جديد يتبعون الاثر خلفه لعلهم يستطيعون اللحاق به فما كان منهم إلا الانحاء لخطواته التي تنطق شعرا وتواضعا.. وليعترف في موضع الاعتراف بقوة انتمائه للمدينة والبلاد ليمسح الخطايا التي تؤجّج الصراع ما بين الجنة والفردوس حين يقتحمان الشعر.
هكذا أراه كلما التقينا في كربلاء أو على قلتها في بغداد، كأنه طود من المعنى والاستغراق، حتى لكأن المدينة تنتظر خطواته كلما ابتعد عنها، وقد عيّنته سفير حروفها، ليتغنى بها، فصارت كربلاء عنوان الكثير من النصوص، مثلما صار هو يطارد حلمه في أن يخطّ عنها ما لم يخطّه أحد من قبل، مستلهما كلّ الحضارات التي تحيط بها، مندفعا من واقعتها كل الصراعات التي تصرخ بتفاعلاتها..
هكذا أحمل اللغة حين أسمع جرسه، وهو يتلو ويغنّي ويقرـ الشعر أمام مرتفع المهرجانات، او مناضد المقاهي أو منصات المحاضرات أو مسارح المسابقات حيث يفوز ويقلد.. نبرته تتميز حالما يسمعها من يدرك معناه، فلا يخطئ بالتحديد، ولا تزوغ عن عينيه الملامح، ولا تتردّد في مخيّلته الصور من الوقوف لحظة خشوع أمام قامته المديدة، كأنه يسرج اللغة حيث يشاء، فلا يجد غير ابتسامةٍ يوزّعها على محبّيه، كهدايا تواضعه، وهم يستلمونها حلوى مكوث في الذاكرة.
محمد علي الخفاجي وكربلاء مثل راية تخفق في ساحات مدارس الأدب، فيكون الاسم أعلى السارية .. ومثل نارٍ على علم حيث تقف القمة شاهقة في الجبل لتبيان التضاريس الأولى والأخيرة، وهي تتمرّد على محنتها.. لذا كانت المدينة تمنحه سماتها للدخول الى مرابعها، وكان وفيًّا لها حين سجّل كل شيءٍ عنها، كأنه حين يمد يده اليمنى ليصافح جدارًا، فيتلقّف كل الجدران كبانوراما مهيبة، فتضيء بين عينيه الأواوين والقباب والمنائر، وتسير روحه نحوه، فصيّرها لتكون قصيدته الأزلية، لا يغافل قدسيتها ولا يختلف عن طهارة الأدب في أن يوجد معادلة الامتنان، مثلما يرتّب أنافسه كي لا تغادر عطر المدينة، وربما هناك من يردّد.. كلما دخل الحضرة وجد فيها ما يعنيه من الحروف.