الوباء المدمر في «النسّاي»

يوسف عبود جويعد

بين القبور وظهور الأموات أحياء من جديد، والرؤية الكابوسية المزدحمة بالتفاصيل والوصف والاسهاب، والخيال الخصب الذي تنبثق منه قرية ثم تتحول إلى مدينة، وجنة ابنة الحائك، ونون حاء الملاذ، وحياة الحيوانات وصفاتهم وسلوكهم، ورحلة مع حياة الذئاب واسرارها الغامضة، في هذا العالم الغرائبي والعجائبي، نخوض تجربتنا التحليلية النقدية لرواية (النسّاي) للروائي يوسف جابر محسن التي تشير بنية عنوانها إلى أن هناك وباءً اصاب أهل القرية برمتها باستثناء المجانين الذين نجوا من هذا الوباء، لنعيش حالة النسيان الكبيرة والغريبة التي ألمت بالناس هناك ونكتشف الكثير عن النقمة والنعمة التي تتخلل هذا الوباء، أما النعمة فإنهم نسوا عداواتهم ومعاركهم وحروبهم ونفاقهم وخرابهم والكثير من الأمور التي تتعلق بما بفعله الإنسان من مساوئ تضر حياته وسلوكه القويم، والنقمة تتعلق بنسيانهم لأسمائهم وأعمالهم وبيوتهم وأطفالهم وزوجاتهم، حتى أنهم يدخلون بيوت غير بيوتهم، وتنسى الزوجة من هو زوجها، والاطفال كل يوم في بيت جديد وأم وأب جديدين، فيضيع الحسب والنسب وتحل تفاصيل جديدة لحياة نسجت من وحي خيال الروائي، والتي اتسمت برؤية خيالية شكلت هالة وهاجة ساهمت في سحب المتلقي الى فضاء متن النص، الذي اختفت فيه معالم المكان وهي حالة تعمد الروائي إخفاءها من أجل أن يأخذ صفة عامة وشمولية ولا ينحصر في إطار المكان، ومن المدخل والمستهل الذي هو العتبة النصية الموازية للنص:
(نعم لدينا ما يكفي من الميتات التي لم نبصرها كي نحياها فالهواء الذي يُرى هو أبلغ صورة الحرّية وضوحاً يوسف)
أقول من خلال هذا المدخل نتلمس معالم النص، والرحلة التي سوف نخوض غمارها من أجل سبر أغواره وفك طلاسمه المتوالية التي نشرها الروائي بين ثناياه وهي كثيرة ومهمة، منها انها تحمل رمزية عالية تتعلق بعملية المقارنة بالحيوات السابقة واللاحقة، ومبدأ وجود الاموات أحياء بيننا، وكذلك تعلق تلك التفاصيل الغرائبية والعجائبية وهذا الخيال المترامي الاطراف بحياتنا وتفاصيلها وترابطها ببعضها:
( حين دهم النسّاي المدينة بقوة قبل شهرين، وبدأ الأهالي يفقدون ذاكرتهم بشكل تدريجي، انتقل الوباء مثل عدوى الألعاب الإلكترونية بسرعة مخيفة بين الصغار والكبار، النسّاي هو ما أرعب أهل المدينة ودفعهم للتفكير بالرحيل عنها ومغادرتها شطر المدن الصحراوية البعيدة أو على ظهر السفائن التي تتعاقب للرسو في مينائها، لكن الأنباء عن حالات وباء اقسى في مدن اخرى أجبرتهم على المكوث والبقاء ومحاولة التأقلم والتكيّف مع المرض الذي بدا بسيطاً لو قُرن بما يحصل هناك وما وصل من أنباء.) ص 13
ويفرض الروائي هيمنته على الأحداث وهو يمسك بأكثر من مسار، وأكثر من ثيمة في طواف متصل على الاحداث التي تدور في القرية التي أصبحت مدينة فيما بعد وتداعيات الوباء، وعودة الأموات مثل جنة بنت الحائك التي تخرج من قبتها اي قبرها ذات القبة الزجاجية وحاء نون ملاذها ومعلمها وهو (نبيل حامد) وتخرج معهما حكاية البستان والمارد الاعرج وحارس البستان الذي يشبه غابة كثيفة ومخيفة وتفاصيل كبيرة وطويلة وعريضة عن الحيوانات التي تسكن تلك الغابة واصواتها وحركاتها وصفاتها وسلوكها وطبائعها، الا أن الروائي وهو في خضم هذه التفاصيل والوصف المسهب الذي غرق فيه الى الحد الذي تحول فيه إيقاع هذا النص من خفيف هادئ، الى ثقيل يثير داخل المتلقي شيئاً من الملل والسبب يعود الى التكرار في نقل حياة الحيوانات وكذلك حياة بطلي هذا النص الذي بدا ظهورهما مربكاً، إذ إن الأمر اختلط على المتلقي وما عاد يعرف هل هم أحياء أم أنهم خرجوا من قبورهم لأننا أحياناً نعيش تفاصيل واقعية حية، ثم ننتقل الى مرحلة اخرى تختلف وربما أراد الروائي أن يقوم بعملية جديدة هي خلط الموت مع الحياة وخلط الحياة مع الموت كونه أشار الى ذلك في متن النص، حيث إننا سنتابع تفاصيل حياة جنة حتى تخرجها من الطب البيطري وممارسة مهنتها في تطبيب الحيوانات، وكذلك حياة نبيل حامد حاء نون الملاذ لجنة ودخوله الحرب واسره ومماته، وهذه التفاصيل عن حياة البطلين تنساب من بين الاحداث كأنها رشقة ماء سريعة من نهر بينما نظل غارقين في تفاصيل حياة القرية والوباء والغرائبية والعجائبية التي وظفها الروائي في متن النص، أن أمور كثيرة أغفلها الروائي وهي ادوات أساسية تدخل في فن صناعة الرواية، وهي انطلاقته من بؤرة الأحداث وبقاؤه متعلقاً فيها، دون مراعاة ما تقتضيه العملية السردية من معالجات فنية واهمها الاحداث التي يجب ان تأتي متسلسلة حسب سياقها الفني، التعريف، الحبكة، التأزم الانفراج وان يكون هناك احتدام وصراع قائم يسحب المتلقي للأحداث، وان يخرج من عمومية الوصف المسهب الى التفاصيل التي يجب ادامتها لتحريك الاحداث نحو الذروة، وبعد الدخول في هذه التفاصيل تتوضح الغاية الاساسية والخطاب المهم الذي وجهه الروائي من خلال عمق الافكار والوعي في متن النص، أن التقنيات الحديثة التي تورطنا باستخدامها حرمتنا من تفاصيل حياتية مهمة، الرياضة الترابط الاجتماعي، وأن وباء النسيان أو النسّاي الذي أصاب أهالي القرية سيحدث لنا مستقبلاً لأننا سوف ننسى الكثير الكثير من الطقوس والتقاليد والسلوك والطباع الصحيحة الطبيعية لنعيش في هذا العالم الافتراضي.
وهكذا فإن وباء النسّاي سيحل علينا ليصيبنا النسيان وننسى حتى أسماء اطفالنا .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة