طموح النص النسوي ورؤية الأفق الوجودي في قصص “وجوه ملوّنة”

د. سمير الخليل

         تعرف القصة القصيرة الناجحة عن طريق الترميز الدلالي الذي يعكس تماسك حبكة القصة الخاصة، وهذا الترميز –عادة- ما يعتريه الحنين والشوق إلى التطابق مع تفاصيل الواقع، وبذلك يقيم لنفسه لغة خاصة تملأ الفراغات غير المؤثثة، وغير المأهولة في مكان أو زمان القص .

         في مجموعتها القصصية البكر (وجوه ملوّنة) الصادرة عن دار ميزوبوتوبيا- بغداد 2018، تحاول القاصة “رجاء الربيعي” من خلال التمثيلات السردية التي ترويها ساردة أنثى، أن تجرب القبض على بعض المعاني الوجودية التي تتطابق مع تمثيلاتها في أرض الواقع، وتبلغ الساردة منزلة مشابهة للعرافة التي تثير الاسئلة وتنتظر الأجوبة عنها هناك، في الخارج، حيث التدفق المستمر للحياة، لهذا نجد أن القصص تظل مفتوحة النهايات، منتظرة لما سيجيئها من الخارج حاملاً لها الاكتمال المطلوب، فالساردة تظل واعية حتى لآخر لحظة محنتها الزمنية، وتدرك أن الأفق الذي يمكن أن تكتمل فيه القصص إنما هو الزمن بأسره.

         إن مثل هذا الفهم “الناضج” يتسم بالمفارقة لأنه يضع “خاتمته” في أفق لا خاتمة له أو عدم قدرته على الاكتمال، وإذا فسرنا ذلك طبقاً للنقد الثقافي لمعنى النص فإن هذا المنهج يؤدي إلى القول بأن معنى كل نص هو ما يتطابق أو يقترب من أفق انتظاره حينما ينزرع هذا الانتظار في خاتمة النص القصصي بعيداً عن لحظة الإقفال المتعارف عليها، ولنتمعن ببعض النصوص: ((بانتظار غائب يتكرر هو الآخر في خشبة باردة، يحضر كل مساء دون أن يجيء)) (ص12). خاتمة قصة ((وعندما حاول الاستعلام عن مصير منزله ومصير قاطنيه، تحرّج ممن كانوا يحيطون به في الإجابة عن مصير كالح كان سيأخذ بالكلام إلى حتفه)) (ص15) . خاتمة قصة “سفر الجريح” . ((مبارك لك بنيتي، بوسعك الآن أن تفتحي عينيك على عمر آخر)) (ص24). خاتمة قصة “حلم وأمل أبيض”. ((ومع نزول شمس مدينتها الجديدة، خلف الجبال والبنايات الشاهقة أحست بأنها الآن امرأة أخرى)) (ص39). خاتمة قصة “أرواح محررة”.

         وأهم من ذلك كيف نصل كقراء إلى الفهم النسوي المطلوب لكي نفتح طريق الوعي الخاص بهذا الفهم، وهو بوصفه شبه خاتمة يحفز كل التأويلات والشروحات إلى دحضه، بل أن قصص “رجاء الربيعي” هذه تختلف عن معظم نتاجات القاصات النسويات العراقيات اللائي قرأنا لهن في أنها لا تنتظر التأويل القرائي أبداً، بل تستخدم صلاحيات القراءة لتثير التساؤل عن استنتاجات القارئ يصل إليها، إذ يلاحظ أن شخصيات القصص لا تستخدم أبداً توصيفات العطب النفسي أو الإحباط المتحقق بل تشير فقط في بعض القصص إلى أن هذا العطب وذاك الإحباط سيزول حالما تتغير الأمكنة والأجواء والوجوه والمزاج العام، وهذا ما تجسد بشكل واضح في قصة “أرواح محررة” وهي من أقوى القصص: ((في ذلك المساء همّت وهي ابنة الثلاثين ربيعاً بالخروج من الفندق الذي استقرت به ضمن الوفد القادم من بغداد، غمرتها سعادة وهي تطالع الشوارع وحركة السيارات من شباك غرفتها، ولأنها أول مرة تشاهد أضواء وشوارع هذه المدينة التي لم تزرها من قبل ، شعرت بجرح غامر يغزو تفكيرها… بدأت علامات الدهشة تظهر على وجهها وهي تستنشق عبير الحرية، سعيدة بنزول الشمس خلف البنايات والجبال المحيطة بالمدينة… سحبت نفساً عميقاً خلسة من أعين الزملاء لكنهم لاحظوا سعادتها بالمكان … أحسّت بالخجل وهي ترتدي ذلك “الإيشارب” الإسلامي حاولت أن تخلعه شيئاً فشيئاً وهي تتلصص على قوامها في مرايا المحلات وتتوجس ريبة من نظرات المارة لها، هل تغيرّت ملامح وجهها؟… كيف تجرأت وحبست وجهها الطفولي كل تلك الفترة؟… لقد نسيت نفسها وحزنها وذلك الخوف الذي كان ينتابها ويغلّف حياتها))(ص36، 37، 38).

         يلاحظ في نسوية هذا النص قلباً أو هدماً لكل صياغة أو فكرة أو مزاج أو إيقاع يشي بالتخثر والتلبث في منطقة الهامش والتحجيم، فهناك مجموعة من عمليات القصد ضمن النبرة الإدراكية وعكس ذلك صحيح، لقد أعيد النظر بأفعال مختلفة لقصدية المعنى على أساس البنية التي تنطوي عليها هذه الأفعال ثم فحص وتمحيص هذه البنى على أساس الأفعال” الأخرى” التي تنطوي عليها. ويضع هذا الأسلوب في إطار متعمد من القضية المنطقية الأولى عند المرأة: حرية الاختيار، وهي تؤلف آلية الحركة السردية لمعظم القصص وتفسر السهولة التي يجدها القراء في فهمها والتعاطف معها، إذ لا يتردد القارئ ولاسيما القارئ الثقافي في قراءة الحركات البلاغية ونشاطاتها على أنها بنى إدراكية يمكن ترجمتها إلى قصد نسوي أو أدبي أو تأويلي آخر، فتندفع تفسيراته نحو اللُّغة المنطقية الخاصة بقضية المرأة واللغة المجازية الخاصة بها من دون تمييز ومن غير دليل على أن كل قصة تحتاج إلى معالجة مختلفة، وثبات الأسلوب الأنثوي يسمح له بأن يقرأ المشاهد السردية والوقفات الوصفية على أنها وسائل للقضايا الحركية (الحراك النسوي) التي تحتاج إلى تفهم أكثر تسامحاً وأكثر إنسانية وأكثر حضارية، وعكس ذلك صحيح أيضاً.

         وفي الختام لا يفوتنا أن ننوه إلى أن الإيجاز والتكثيف قد طال كل قصص المجموعة، أما على مستوى المضمون المثيم فقد حفل بكثرة أحلام اليقظة وهو ما ميّز قصص (وجوه ملوّنة) ومنحها بعداً وجودياً من خلال إعادة الاعتبار للماضي (انتظار الغائب مهما طالت غيبته)، وإضفاء حيوية شيئية على المنتظر من خلال القوة على صياغة الأحلام أو تقمصها بطرق ساحرية ومقنعة وأكثر من افتراضية إن الوجوه الملوّنة هي وجوه النساء الجميلات وقد خلعن ما يغطيهن من حجب وأكفان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة